(إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين) (٣٧)
المفردات:
- الحرص: الشدة في إرادة الشيء.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة أن عاقبة المكذبين هي الهلاك في الدنيا قبل الآخرة، وخوفا من أن يمس العذاب الأليم من بقي على ضلاله حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هداية الناس.
فأخبره الله سبحانه وتعالى أن الذين يختارون الضلالة لهم الضلالة، ولن يجبرهم الله سبحانه على الهدى، ولهم عذاب أليم لا يدفعه عنهم أحد.
المعنى التفصيلي:
- في الآية بيان لعظيم رحمته صلى الله عليه وسلم، وثناء على كمال خلقه الشريف، فهو حريص على هداية من آذوه ومن يؤذونه؛ وكل هذا الحرص لينقذهم من العذاب، ولتكون عاقبتهم جنة الخلد.
فما أحوجني وأحوج الدعاة لأن نتفكر في تنمية الرحمة في قلوبنا، حتى تكون زادا لمسير دعوتنا للمكذبين، وأن نتمنى لهم الهداية في الوقت الذي يتمنون لنا فيه الهلاك، لأن أجر هذا العمل سيكون عظيما، لأن من كلفنا فيه كريم يزيد العطاء، وقدير يقدر على الوفاء.
فمن كانت معاملته مع الخلق لأجل الخلق، سلمه الله إلى الخلق، ومن كانت معاملته لأجل الله، فإنه لا ينظر إلى ما لاقاه.
- حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته ليس أمرا قد انتهى في أول حياته، ولذا لم يأت النص " إن حرصت "، وإنما هو أمر متجدد على طول حياته صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يفيده الفعل المضارع (تحرص).
وفي هذا بيان لعظيم صبره صلى الله عليه وسلم، وعظيم رحمته.
- في الآية شرط وجوابه (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين)، وجواب الشرط - في الغالب - يحصل لحصول الشرط، نقول: إن تدرس تنجح، ولكن جواب الشرط في هذه الآية لم يحصل لأجل الشرط، بل هو حاصل من دون الشرط، وجواب الشرط هنا لإفادة العلم.
إذن؛ سنة الله في إضلال من اختار الضلال سنة ماضية حاضرة مستمرة (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) (مريم:٧٥)
- قد يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى يقول (فإن الله لا يهدي من يضل) فهل ضلال الكفار جبر وقهر من الله سبحانه؛ لأن الإضلال أسند في الآية إلى الله (يضل) أي يضل الله؟
فنقول له: لا بد من فهم قوله تعالى (فإن الله لا يهدي من يضل) في ضوء الآيات التي وضحت كيف ومتى يقضي الله على الكفار بالضلالة.
قال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (الصف: ٥) فالله سبحانه وتعالى (لا يهدي القوم الفاسقين) ولكن أي نوع من الفاسقين هؤلاء؟ هؤلاء هم من قضى الله عليهم بالكفر، ولكن لماذا قضى الله عليهم بالكفر؟ قضى عليهم بالكفر؛ لأنهم هم من اختار الضلال ورفض الهدى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) فهم من زاغ ورفض الحق، فكان عاقبة زيغانهم أن أزاغ الله قلوبهم عقابا لهم.
وتبين الآية السابقة - أيضا - أن من يصر على الضلالة فإن الضلالة تحق عليه وتجب (من حقت عليه الضلالة) أي اختارها حتى لزمته.
- ولكن لماذا أسند الإضلال في الآية إلى اسم الجلالة، ولم يسند إلى الكفار، أي لماذا لم يأت النص "يضل" وليس (يضل)؟
ينبغي أن نعلم قبل الإجابة أن الهداية والضلال يسيران وفق سنن قضاها الله سبحانه وتعالى، وهي أن من اختار الهداية فله ذلك، ومن اختار الكفر فله ذلك، وأن أمر الهداية والضلال بأجمعه بيد الله؛ لأنه من قضى هذه السنن، وبقضاء هذه السنن فإنه لا يضل ضال ولا يهتدي مهتد إلا بمشيئة الله سبحانه، وفي خلاصة الأمر فإن الله هو الذي أضل وهو الذي هدى (من يضلل الله فلا هادي له) (الأعراف: ١٨٦) وكذلك (ومن يهد الله فهو المهتد) (الإسراء: ٩٧)
أسند الإضلال في الآية إلى اسم الجلالة، ولم يسند إلى الكفار؛ من باب ذكر المشيئة العامة؛ لأن السياق هو بيان للنبي صلى الله عليه وسلم - بداية - بأن الحرص على هداية الكفار ليس موجبا لهدايتهم، فأسند الفعل إلى الله لتهويل أمر الإضلال بأنه منه سبحانه، ولذا فإن إسناد الفعل إليه سبحانه قاض بحزم البيان في مسألة أن الهداية ليست بالحرص.
وهذا كقوله تعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) (القصص: ٥٦)
- قرئ قوله تعالى (يهدي) بضم الياء وفتح الدال (يهدى)، وعلى هذه القراءة يكون المعنى: إن الذي أضله الله لا يهدى.
والتعبير بالبناء للمجهول ينفي وقوع الهداية لمن أضله الله من أي جهة كانت الهداية.
- ولكن لماذا لم يأت نص الآية (إن تحرص على هداهم فإن الله) "يهدي من يشاء" كقوله تعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (القصص: ٥٦) ولكن جاء النص (فإن الله لا يهدي من يضل)؟
وذلك لأن السياق سياق تهديد، فتدبر معي - حفظك الله - هذه الآيات (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (٣٣) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (٣٤) وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين (٣٥) ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (٣٦) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين (٣٧) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (٣٨) ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين (٣٩)) (النحل)
أما قوله تعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) (القصص: ٥٦) فسياقه مختلف عن هذا السياق؛ لأن الآيات السابقة فيها ثناء على من آمن من أهل الكتاب، فكان في إيمان أهل الكتاب فرحة للنبي صلى الله عليه وسلم ولكنه يترك حسرة في قلبه سببها إيمان البعيدين عنه وكفر أهله وخاصته، فجاءت الآية تأنيسا له، فناسب ذكر الهداية مقام التأنيس (ولكن الله يهدي من يشاء)، أما في مقام الوعيد والتهديد فجاء قوله تعالى (فإن الله لا يهدي من يضل)
وختمت آية الوعيد والتهديد بـ (وما لهم من ناصرين)، وختمت آية التأنيس بـ (وهو أعلم بالمهتدين)، والفرق بينهما واضح، ويزداد تذوقه مع الزيادة في التدبر.
- (وما لهم من ناصرين)، فالمسألة ليست مسألة ضلال فقط وينتهي الموضوع، بل هناك عذاب عظيم مترتب على هذا الضلال، ولا يستطيع أحد في الوجود - إلا أن يشاء الله - أن يرفع العذاب عن الذين يريد الله أن يعذبهم.