(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) (١٠٦)
المعنى الإجمالي:
بعد بيان الآيات لما قاله الكفار طعنا في القرآن الكريم، وبعد الرد عليهم، جاءت هذه الآية لتهدد وتتوعد من يكفر بعد إيمانه متبعا ما يروجه الكفار، وذلك تقديما لمنافع الدنيا ومصالحها على أمر الآخرة.
ولكن الذي ينطق بالكفر بسبب الإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان فلا شيء عليه، إنما العذاب على من يكفر بدون إكراه؛ لأنه ما كفر امرئ دون إكراه إلا وقد طاب صدره وانشرح بالكفر، وهؤلاء عليهم غضب من الله العظيم، ولهم في الآخرة - أيضا - عذاب عظيم.
المعنى التفصيلي:
- (من) اسم شرط وجوابه (فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)
- (كفر) جاء الفعل ماضيا؛ لأن معنى الفعل الماضي في الشرط يصبح مضارعا، قال تعالى (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ... ) (البقرة: ٢٤٩)
- (كفر بالله) لو جاء النص من غير (بالله) لفهم المقصود، ولكن ذكر لفظ الجلالة تعظيما لأمر هذا الردة لأنه ليس كفرا بأي أحد، إنه كفر بالله، ولذا فليحذر من يفكر في مثل هذا الأمر.
- (من بعد إيمانه) ولكن كيف يكفر من آمن؟
هذا ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (قال بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا) (صحيح مسلم ج١/ص١١٠)، وهذا ما سيأتي بيانه في الآية التالية (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) (١٠٧)
- (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) وهذا استثناء منقطع ممن توعدهم الله سبحانه وتعالى، فإن من أكره على الكفر وتلفظ به إنما هو معذور.
قيل: إن هذه الآية نزلت بسبب نطق عمار بن ياسر - رضي الله عنه - بالكفر مكرها. علما بأن هذه القصة لم تثبت وإنما جاءت من طرق ضعيفة.
- (أكره) بني الفعل للمجهول؛ لأن المهم في الأمر إبراز أمر الإكراه لا إبراز من قام به، فإن القائمين على إكراه الناس على الكفر من زمن نزول هذه الآية إلى هذا الزمن من الكثرة بمكان حيث لا يستطيع أحدنا أحصاءهم.
- (وقلبه مطمئن بالإيمان) الواو حالية، أي: حال هذا الذي نطق بالكفر أنه مؤمن بالله، لأن من الناس من يكره على الكفر فيكفر راضيا متجها بنفسه وقلبه إلى الكفر لتحصيل منفعة دنيوية خسيسة.
- الإكراه الذي يبيح الكفر هو الذي يخاف به المرء على نفسه أو أهله أو على عضو من أعضائه أو أعضاء أهله أو عذاب شديد لا يحتمله أكثر الناس، ويقاس على هذا أنواع الإكراه المختلفة.
ولا يجوز الكفر بسبب إكراه يسير يحتمله أكثر الناس، ودرجة الإكراه المبيحة لأي فعل تقدر بدرجة الحرام الذي يستباح، فقد يكره شخص على دفع دينارين للصوص فيعطيهم، علما بأنه لو أكره هذا الإكراه لأجل دفع ألف دينار فإنه لن يرصخ له.
وبناء على هذا يفهم ما ينقل عن بعض العلماء من أن الإكراه يقع بسوط أو سوطين، فإننا لو بحثنا عن هذه الأقوال لوجدنا أنها قيلت في وقائع تناسب هذا الإكراه وليس في مسألة الكفر.
- وكما أن الكفر يباح عند الإكراه فإباحة فعل المعاصي كشرب الخمر وأكل الميتة أولى بالجواز.
- لكن هناك أفعال لا يبيحها الإكراه كالقتل والاغتصاب وغيرهما من المعاصي التي فيها الاعتداء على الآخرين.
- وقد اختلف العلماء في جواز فعل عمل الكفر - كالسجود للصنم - بعد اتفاقهم على جواز النطق بالكفر، والظاهر الجواز، لأن النطق باللسان كفر والعمل بالجوارح كفر، وكما أبيح النطق باللسان - وهو من الجوارح - فإباحة العمل مثله، فهما في معنى واحد.
- ولكن لا بد أن يعلم أن الصبر على الإكراه لأجل الله أعظم من الرضوخ للإكراه.
- (ولكن من شرح بالكفر صدرا) وهذا استدراك بأن الذين يشملهم الوعيد هم من طابت قلوبهم بالكفر.
- (شرح بالكفر صدرا) وانشراح الصدر هو الراحة والقبول الذي يداخل النفس لأمر ما.
- ولكن لماذا لم يأت النص "ولكن من قلبه مطمئن بالكفر" مثل قوله تعالى (وقلبه مطمئن بالإيمان)؟
لم يأت النص هكذا لأن الكفر ليس فيه طمأنينة.
- (شرح بالكفر صدرا) لم يأت النص "وصدره منشرح بالكفر" كما في قوله تعالى (وقلبه مطمئن بالإيمان)، لأن (وقلبه مطمئن بالإيمان) جملة اسمية تدل على الثبوت والدوام، فهذا القلب دائم الاطمئنان بالإيمان، لأن من لا يكون قلبه مطمئنا بالإيمان وقت السعة والراحة فلن يطمئن بالإيمان وقت الإكراه، فهو قلب مطمئن بالإيمان قبل الإكراه وعنده وبعده.
بينما جملة (شرح بالكفر صدرا) هي جملة فعلية لا تدل على الثبات والدوام؛ لأن القلب الكافر ليس قلبا منشرحا، بل انشرح وقتيا لأمر عارض وسرعان ما يضيق هذا الصدر، وتأمل معي قوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) (الأنعام: ١٢٥)
- لماذا قدم الجار والمجرور (بالكفر)؟
قدم الجار والمجرور (بالكفر)؛ لإبراز بشاعة الأمر بإظهار سبب الانشرح أولا قبل ذكر الصدر؛ لأن المنكر في الأمر ليس مجرد انشراح الصدر بل المنكر هو انشراحه بالكفر، ولذا قدم لإبراز وجه الإنكار والبشاعة.
- (صدرا) لم يأت الصدر معرفا "صدره" بل نكر استحقارا لهذا الصدر الذي انشرح بالكفر.
- (فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) في الجمع بين الغضب والعذاب مع وصف العذاب بالعظيم دلالة على عظيم عقاب المرتدين عند الله سبحانه وتعالى.
- (فعليهم غضب من الله) الوعيد بهذه الجملة الاسمية يدل على دوام غضب الله عليهم وثبوته، فهو ليس غضبا مؤقتا، والنص على أن هذا الغضب من الله ليس من أحد غيره تعظيم له وزيادة في الوعيد.
- (ولهم عذاب عظيم) أي في الآخرة. وقدم الجار والمجرور (لهم)، علما بأن المبتدأ نكرة موصوفة يجوز الابتداء بها، ولكن قدم الجار والمجرور زيادة في تهديد هؤلاء المرتدين، أي أن العذاب الأليم لهم هم، فليعلموا.
- وللمرتدين عقاب يقام عليهم في الدنيا بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) (صحيح البخاري ج٦/ص٢٥٣٧)