(وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) (١٠١)
المفردات:
- بدلنا: من التبديل، وهو: جعل شيء مكان شيء.
- مفتر: الذي يكذب عن عمد.
المعنى الإجمالي:
ما زال الكلام في شأن القرآن، فبعد الأمر بالاستعاذة وبيان فائدتها، جاءت الآية ببيان طعن الكفار بالقرآن، وسبب هذا الطعن هو النسخ الواقع في آيات الله سبحانه وتعالى.
فإذا ما وقع النسخ في آية من آيات الله، قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت تفتري على الله كذبا، وهذا القرآن ليس من عند الله؛ وذلك لوقوع النسخ في آياته.
ولكن لا بد من العلم أن الله - سبحانه وتعالى - ينزل من الآيات في كل زمن ما يعلم أنه نافع لنا، ولكن الكفار لا يعلمون ما في النسخ من الحكم والمنافع، ومنهم من يعلم ولكن ينكر عنادا واستكبارا.
المعنى التفصيلي:
- هذه الآية تدل على أن الله - سبحانه وتعالى - ينسخ آياته كما يريد، وليس هذا من باب التناقض، وإنما هذا لحكم يعلمها الله سبحانه وتعالى.
- (وإذا) جاء التعبير بـ (إذا) وليس "إن"؛ لتحقق وقوع النسخ في آيات القرآن الكريم، وما أثير حول النسخ من شبه قد رد عليه العلماء قديما وحديثا، فمن أراد الاستزادة فعليه مراجعة كتب علوم القرآن الكريم.
- (بدلنا آية مكان آية) أي: بدلنا حكم آية مكان حكم آية، أو: بدلنا آية موضع آية أخرى، بأن وضع لفظ آية مكان لفظ آية.
ولا بد من شرح مختصر مسهل حول أنواع النسخ حتى يتضح تفسير الآية.
فأنواع النسخ ثلاثة:
الأول: نسخ الحكم وبقاء التلاوة.
الثاني: نسخ التلاوة وبقاء الحكم.
الثالث: نسخ الحكم والتلاوة.
أما الأول (نسخ الحكم وبقاء التلاوة) فمثاله:
(يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) (المجادلة: ١٢) منسوخ بقوله تعالى (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون) (المجادلة: ١٣)
أما الثاني (نسخ التلاوة وبقاء الحكم) فمثاله:
قال أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. قال أبي: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت (ألهاكم التكاثر). (صحيح البخاري ج٥/ص٢٣٦٥)
وأخرج (مسلم ج٢/ص٧٢٦) من حديث أبي موسى الأشعري نحو هذا المعنى (بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمئة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فأتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف بن آدم إلا التراب)
أما الثالث (نسخ الحكم والتلاوة) فمثاله:
عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن. (مسلم ج٢/ص١٠٧٥)
ومعنى (فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن) أي عند من لم يبلغه النسخ لغاية ذلك الوقت، وكما تعلم يا أخي فإن طرق الاتصال في عصرهم كانت صعبة.
فإن قلنا معنى الآية: بدلنا حكم آية مكان حكم آية. فهو النوع الأول من النسخ (نسخ الحكم وبقاء التلاوة)
وإذا قلنا: معنى الآية: بدلنا لفظ آية مكان لفظ آية. فهو من النوع الثاني (نسخ التلاوة وبقاء الحكم) أو من النوع الثالث (نسخ الحكم والتلاوة).
قد يسأل سائل: كيف تنسخ تلاوة القرآن، وهل ينسخ كلام الله - سبحانه وتعالى - ويصبح ليس كلاما لله؟!!
وللجواب عن هذا لا بد من العلم أن كلام الله - سبحانه وتعالى - موجود في القرآن وغيره، ونسخ تلاوته في القرآن لا يخرجه عن كونه كلاما لله، بل ينسخ حكم ضمه إلى القرآن.
- (والله أعلم بما ينزل) هذا احتراس لبيان أن التبديل الحاصل إنما هو لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، وليس كما يشغب به الكفار من أن النسخ دليل على التناقض.
- جاء إسناد الفعل (بدلنا) إلى الضمير "نا"، وجاء الالتفات من أسلوب الغيبة إلى أسلوب المتكلم؛ تعظيما لأمر النسخ.
- (والله أعلم بما ينزل) الالتفات من أسلوب المتكلم (بدلنا) إلى أسلوب الغيبة (الله)؛ لما في ذكر اسم الجلالة (الله) من تنبيه على مصدر النسخ، ولأن التعبير بأسلوب الغيبة في هذا السياق (والله أعلم بما ينزل) مقرر للخبر بأسلوب القاعدة والأصل، ولو قلنا في غير التنزيل "ونحن أعلم بما ننزل" لما ظهر الكلام على نسق تقرير القاعدة والأصل.
- (قالوا إنما أنت مفتر) أي قال الكفار لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنما أنت يا محمد تفتري على الله الكذب، فهذا القرآن ليس كلام الله؛ لأن هذا التناقض لا يكون في كلام الله.
- (إنما أنت مفتر) وهذا قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي. وقد سبق بيان المقصود من هذا الاصطلاح. وقولهم (أنت مفتر) ليس بقوة القصر (إنما أنت مفتر)، فهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أنت إلا مفتر. فكأنهم ألغوا كل صفاته التي يتصف بها وجعلوا له صفة واحدة ألا وهي: الافتراء.
- (مفتر) أي: مفتري. فهم لا ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم الكذب فقط، بل ينسبون له الاحتراف في الكذب، لأن الافتراء هو: ادعاء الكذب، وهذا الادعاء متعمد، لأن أصل الافتراء "القطع"، فمن يفتري الكذب فإنما يتعمد الكذب ويقطع به.
والافتراء يستعمل في التعبير عن الكذب، ولكنه ليس هو الكذب، بل استعمل فيه، وانظر في قوله تعالى (انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) (النساء: ٥٠) ( ... ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ... ) (المائدة: ١٠٣) وغير ذلك من الآيات.
- (بل أكثرهم لا يعلمون) أن في النسخ حكما بالغة، و (بل) للإضراب، وهذا إضراب انتقالي، والإضراب الانتقالي هو: الانتقال من أمر إلى أمر أفظع منه مع بقاء الحكم الأول، والحكم الأول هو ادعاؤهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مفتر.
- ولكن لماذا (أكثرهم لا يعلمون) لا كلهم؟
وذلك؛ لأن فيهم السادة والزعماء وأصحاب المصالح الذين يعلمون الحق ولكنهم ردوه عن علم لأجل مصالحهم، وفيهم العامة الذين قد يغيب عنهم كثير من الأمور.
- ولكن قد يسأل سائل: إن كان الكفار لا يعلمون فلماذا يحاسبهم الله سبحانه وتعالى، مع أن الجهل عذر من الأعذار التي ترفع العذاب، قال تعالى ( ... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء: ١٥)؟
وللجواب عن هذا لا بد من العلم أن جهلهم هنا لا يعذرون به؛ لأنه ليس جهلا ناتجا عن عدم وصول الخبر إليهم، بل هو جهل ناتج عن جحودهم وإغلاقهم قلوبهم عن الإيمان، وعقولهم عن التفكير، ولذا فهذا الجهل من كسب أيديهم!