(لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) (٢٣)
المفردات:
- لا جرم: حقا.
- تسرون: تخفون، والسر ضد العلانية.
- المستكبرون: المتعالون والمتعاظمون.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة أن الله سبحانه هو الإله الحق وأن الكفار ينكرون هذه الحقيقة في قلوبهم، وأن حالهم الظاهرة هي الاستكبار على دين الله، تبين هذه الآية أن حال الكفار الباطنة والظاهرة معلومة عند الله تعالى، و أن الله سيجزي هؤلاء المنكرين المستهزئين عاقبة فعلهم ولن ينعم عليهم بأي فضل لأنه لا يحب المستكبرين.
المعنى التفصيلي:
- الجرم هو الذنب، والذنب هو الباطل، ونفي الجرم نفي للباطل، ونفي الباطل هو إثبات الحق؛ لأن الأمر إما أن يكون حقا أو باطلا، فإذا نفي الباطل وقع الحق، ولذا فإن معنى لا جرم هو حقا.
- جاءت هذه الآية مؤكدة بأكثر من تأكيد الأول (لا جرم) والثاني (أن) والثالث: ذكر لفظ الجلالة "الله" ذكرا ظاهرا دون الضمير، ولم يأت النص: " لا جرم أنه يعلم ما يسرون " زيادة في تقرير علم الله للسر والعلن وأنه لا يغيب عنه شيء.
- لم تأت هذه التأكيدات في الآية (١٩) من هذه السورة (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) لأن الآية (١٩) جاءت في سياق تقرير أن الله يعلم كل شيء، ولكن هذه الآية (لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) جاءت في سياق تهديد الكفار على ما يسرونه من الكفر بالله، وعلى ما يظهرونه من الاستكبار بالطعن والشتم والاستهزاء، فكان التأكيد زيادة في التهديد.
- قدم (تسرون) على (تعلنون) لأنه قد يظن ظان أن الله يعلم السر والعلانية، ولكن علم العلانية أسهل عليه، فقدم علم السر تنبيها على أن الأمرين يستويان.
- قد يسأل سائل ما علاقة ختم الآية بقوله تعالى (إنه لا يحب المستكبرين) مع أن الآية تتحدث عن علم الله للسر والعلن؟
وسبب ختم الآية هو أن جملة (إنه لا يحب المستكبرين) تسمى في البلاغة تذييل، أي تعقيب الجملة بجملة أخرى موافقة لها في المعنى لتأكيد الجملة الأولى.
فالجملة الأولى (لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) تهديد للكفار على ما أخفوه في صدورهم وعلى ما يظهرونه من صور الاستبكار من الشتم والطعن، والجملة الثانية (إنه لا يحب المستكبرين) تهديد للكفار بأن لهم العذاب لأن الله لا يحبهم بسبب استكبارهم على دينه، فجاءت الجملة الثانية مؤكدة للأولى، وهذا ما يسميه أهل البلاغة بالتذييل، وهذا يبين العلاقة بين الجملة الأولى والثانية في الآية.
- جملة (إنه لا يحب المستكبرين) مؤكدة بـ (إن) زيادة في الوعيد.
- قال تعالى (إنه لا يحب المستكبرين) وليس " المنكرين " لأنه ليس كل منكر مستكبر، فكم من منكر لما تبين له الحق أذعن له؟! ولكن كل مستكبر على دين الله هو منكر له، فذكر المستكبرين أغنى عن ذكر المنكرين.
- وجاء في تفسير الآية السابقة دلالة كلمة (مستكبرون) من ناحية أنها تدل على الطلب، فانظر إليه إن شئت.
- قد يستدل بعض المفسرين بهذه الآية على أن الله لا يحب من يتكبر على الناس؛ لأنها تتحدث عن المستكبرين، ومن المعلوم أن الله لا يحب المستكبرين، وأن هنالك أدلة كثيرة على هذا من القرآن والسنة، ولكن لا بد من العلم أن المقصود بالمستكبرين في هذه الآية هم المستكبرون على دين الله وعلى التوحيد، وليس المقصود به جنس المستكبرين، بل هو نوع خاص منهم وهم الكفار.
وقد يقول قائل: ولماذا لا يكون المقصود بهم جنس المستكبرين، فيكون الكلام أبلغ، أي أن الله لا يحب جنس المستكبرين، وبالأولى هو أشد بغضا للمستكبرين على التوحيد.
فأقول له: السياق لا يدل على ذلك، فالآية السابقة تبين أن المستكبرين هم من لا يؤمن بالآخرة (إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون) (٢٢) والآيات التي بعدها تبين أن المستكبرين هم من لا يؤمن بما أنزل الله (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) (٢٤)
فالأبلغ حمل المعنى على السياق، فالآية تهدد الكفار المستكبرين على التوحيد، فالأبلغ هو تخصيص التهديد للكفار المستكبرين على التوحيد، وأما تهديد المستكبرين على الناس بسلوكهم فليس الموضوع موضوعهم، لأن التخصيص في التهديد فيه زيادة في الوعيد.