للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) (٧٥)

المفردات:

- ضرب: جعل.

- مثلا: وأصل المثل: الصفة، ومعناه هنا: وصف يقاس عليه.

المعنى الإجمالي:

زجرت الآية السابقة الكفار بسبب ما وقعوا به من الشرك، وجاءت هذه الآية لتقول للكفار: إنكم لا تسوون بين العبد المملوك الذي لا يقدر على التصرف بالمال، وبين الحر الذي يفعل بماله ما يشاء، فكيف تسوون بين الله الخالق الرازق وبين الأصنام التي لا تملك من أمرها شيئا، فضلا عن أن تملك لكم شيئا.

المعنى التفصيلي:

- (ضرب الله مثلا) وصف سبحانه وتعالى وصفا ليقيس عليه الكفار ما يفعلونه، فيعلموا أنهم مخطئون.

- أبهم المثل في قوله تعالى (ضرب الله مثلا)، ثم فسر بقوله تعالى (عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا)، وهذا الإبهام للمثل ثم تفسيره فيه ما فيه من تفخيم المثل وتعظيمه.

- (ضرب) جاء التعبير بـ "الضرب" لا "الجعل"؛ لما في الضرب من وقع يلفت النظر، وهذا يلفت النظر، وهذا يتناسب والمثل؛ لأن المثل يلتفت الأنظار، ويدق الأذهان فيوقظ النائم وينبه الغافل.

وقيل: إن ضرب المثل من ضرب الدراهم؛ لأن المثل هو ذكر شيء يظهر أثره في غيره.

ولكن لا بد من العلم أن فقه معنى الكلمة يكون بالرد إلى أصل المادة، وأصل المادة "ضرب" وهو إيقاع شيء على شيء، وهذه المادة تستعمل عدة استعمالات، وفي كل استعمال يشترك معنى الضرب مع معنى آخر لينتج له دلالته، فليس من الصواب ربط الكلمة بالاستعمالات، لأننا قد نربط الكلمة بأحد الاستعمالات، ولكن يكون الربط في القدر غير المشترك بين الكلمة وأصل المادة، فيخرج الباحث عن معنى الأصل إلى معنى آخر جديد، ظانا أنه قد رد الكلمة إلى أصلها، هذا فتأمله بارك الله فيك.

- (عبدا) بدل من (مثلا)، والعبد هو الإنسان الذي يملكه إنسان آخر، وهذا التملك يكون عن طريق أسره في الحرب، أو عن طريق شرائه من سيده، أو عن طريق الميراث.

- (مملوكا) وصف للعبد، ولكن لماذا هذا الوصف مع أن كلمة "عبد" تدل على أنه مملوك؟

جاء وصف العبد أنه مملوك؛ لئلا يظنن ظان أن المقصود فيه هو العبد بالمفهوم العام، فكل إنسان إنما هو عبد لله، لأنك لو قرأت الآية دون كلمة (مملوكا) لاحتمل أن تفسر بإنسان عاجز لا يملك شيئا، وبإنسان قادر ينفق ماله كيف يشاء.

- (عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) إن العبد المملوك لا يملك مالا، ولا يستطيع التصرف بإرادته، فلا يذهب ولا يرجع إلا بأمر سيده، ولكن هذا العبد المملوك الذي ضرب مثلا ليس مملوكا عاديا، بل هذا العبد عاجز أيما عجز؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئا، أي شيء كان، ولذا قال تعالى (لا يقدر على شيء)، فهو أسوأ مثل للعبد المملوك، وأبلغ مثال على عجز البشر.

- (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) هو الحر القادر الذي رزقه الله الرزق الحسن، فهو ينفقه سرا وجهرا، وهو المقابل للمملوك الذي لا يقدر على فعل شيء.

- في قوله تعالى (رزقناه) التفات من الغيبة (ضرب الله مثلا) إلى المتكلم (رزقناه)، والـ"نا" في قوله تعالى (رزقناه) للتعظيم؛ وذلك تعظيما لأمر النعمة التي أنعمها الله على هذا المرزوق.

- الرزق من الله سبحانه وتعالى (رزقناه)، فلماذا ذكرت (منا) في قوله تعالى (رزقناه منا)؟

ذكرت (منا) في قوله تعالى (رزقناه منا)؛ توبيخا للكفار بأن الله هو الرازق وحده، وأن الأصنام لا ترزق أحدا، فكيف تعبدونها؟

وكذلك ذكرت (منا)؛ زيادة في البيان للمؤمنين أن أمر الرزق إنما هو لله وحده، وليس لأحد أن يشك للحظة أن في الكون من يتحكم في أرزاق العباد.

- (رزقا حسنا) فهو ليس أي رزق، بل هو رزق حسن، أتى عن طريق حسنة، فليس في اكتسابه ذل ولا ضنك، وليس مما يسرع إليه الفساد أو الكساد، وليس مما يصعب الاستفادة منه.

والرزق الحسن اكتسابا وامتلاكا إنما هو أطيب الرزق وأعلاه منزلة؛ لأنه صالح، طيب، حلال.

- (فهو ينفق منه سرا وجهرا) فاء (فهو) للتفريع، أي: بناء على أن هذا الحر قد رزق الرزق الحسن فهو ينفق ماله كيف يشاء، سرا أو جهرا، فالفاء رتبت الإنفاق على الرزق.

- (فهو ينفق منه) جملة اسمية؛ للدلالة على ثبات أمر الإنفاق، وأما الخبر فهو فعل مضارع (ينفق) للدلالة على تجدد الإنفاق.

وعبر عن الرزق بالفعل الماضي (رزقناه)، وأما الإنفاق فعبر عنه بالفعل المضارع (ينفق) دلالة على فعله الخير بما رزق من مال ولو لم يزدد هذا المال.

- جاء التعبير بـ (ينفق) للدلالة على أن أعلى تصرف يقوم به العبد بماله، هو الإنفاق في الخير.

ولقائل أن يقول: ما أدراك أن هذا الحر ينفق ماله بالخير؟

الدليل على أن هذا الحر ينفق ماله بالخير، أن مثل هذا الحر ضرب لأفضل مثل للأحرار، كما أن مثل العبد ضرب لأسوأ شيء في العبيد، وهذا لبيان الفرق الشاسع بين المثلين.

إذن؛ فالعبد المملوك لا يملك شيئا، وفي مقابله الحر الذي رزقه الله الرزق الحسن، والعبد المملوك لا يقدر على التصرف، بينما الحر ينفق ماله كما يشاء، فهما عجزان عند المملوك، الأول: عدم الملك، والثاني: عدم القدرة.

وبالمقابل، فهما قدرتان عند الحر، الأولى: الرزق الحسن، والثانية: القدرة على التصرف.

وأيضا فإن التعبير عن النفقة بالسر والعلن جاء في القرآن في سياق نفقة الخير، قال تعالى:

(الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة: ٢٧٤)

(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار) (الرعد: ٢٢)

(قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال) (إبراهيم: ٣١)

(إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور) (فاطر: ٢٩)

- ولكن لماذا جاءت الآيات التي تتحدث عن الصدقة بصيغة (سرا وعلانية)، بينما جاءت هذه الآية بصيغة (سرا وجهرا)؟

اختلاف الصيغة لاختلاف السياق والمقصود، فالعلن ضد السر، بينما الجهر ليس ضد السر فقط، بل هو الظهور بإفراط ومبالغة.

وسياق آيات الصدقة سيق لبيان أن المتصدقين ينفقون المال سرا لا يعرف عنه أحد، وعلنا فيما يراهم فيه الناس، ولكن المقصود في سياق هذه الآية بيان كمال قدرة هذا الحر على التصرف بماله، فهو قادر على أن ينفقه سرا، وقادر على أن ينفقه جهرا، ويتضمن هذا أنه قادر على أن ينفقه علنا؛ لأن الجهر يتضمن العلن، ولكن العلن لا يتضمن الجهر، ولذا بينت الآية أبعد التصرفين عن بعضهما (سرا وجهرا) للدلالة على كمال القدرة في التصرف لا على مجرد القدرة فقط.

- (ينفق منه) وليس "ينفقه"؛ لأنه لو أنفق ماله كله لأصبح عاجزا عن التصرف؛ لأنه لا مال عنده حينئذ، وهذا لا يناسب هذا السياق؛ لأن الحر المالك المتصرف يصبح عندما ينفق ماله قريبا من العبد الذي لا يملك؛ لأنه حر فقد ماله، مما يترتب على ذلك تحديد دائرة تصرفاته.

- (فهو ينفق منه سرا وجهرا) ذكر السر والجهر هنا لبيان كمال تصرف الحر، أي ينفق كما يشاء، وقدم ذكر السر على الجهر؛ لأن المقام مقام بيان أفضل الأحرار في التصرف، فنفقة الحر في السر خير من الجهر (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) (البقرة: ٢٧١).

فعمل الخير بالسر خير من الجهر، حيث جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ... (البخاري: ١٣٣٤).

- قال سبحانه وتعالى في حق الحر (رزقناه منا رزقا حسنا) بينما قال في شأن العبد (لا يقدر على شيء)، فلماذا لم يقل في حق العبد "لم نرزقه" بدلا من (لا يقدر على شيء)؟

لم يقل سبحانه وتعالى في حق العبد "لم نرزقه" بدلا من (لا يقدر على شيء)؛ لأن العبد المملوك مرزوق أيضا، فله الطعام والشراب وغير ذلك من الأشياء، ولكنه لا يقدر على التصرف.

وأيضا فإن قوله تعالى (لا يقدر على شيء) لا يدل فقط على أن العبد المملوك لا يقدر على التصرف بالمال، بل لا يقدر على فعل شيء البتة.

- قدم مثل العبد المملوك على الحر؛ لأن سياق الآية منصب على إنكار رفع الأصنام عن الحضيض الذي هي فيه، ومنصب على بيان عجز الأصنام، وليس منصبا على بيان عظمة الله - سبحانه وتعالى - على وجه التفصيل، مع أن الآية تبين الأمرين، وللتوضيح أقول: المعنى الرئيسي في الآية هو إنكار تعظيم الأصنام ومساواتها بالله سبحانه وهي لا شيء، وليس المعنى الرئيسي تفصيل جوانب عظمة الله سبحانه وتعالى، ولذا قدم ذكر مثل العبد إمعانا في انتقاص الأصنام.

- (هل يستوون) هذا استفهام إنكاري، أي لا تستوي الأصنام والخالق سبحانه وتعالى، بناء على أنه لا يستوي العبد المملوك والحر.

- وجاء التعبير بصيغة الجمع (يستوون) وليس المثنى "يستويان"؛ لأن هذه نتيجة مثل العبد المملوك والحر، أي أن المقصود هو أن الأصنام لا تستوي والخالق سبحانه، والأصنام متعددة؛ ولذا جاء التعبير بصيغة الجمع (يستوون).

وقيل: أريد جنس العبد والحر، وقيل غير ذلك، والذي أراه أن المقصود هو أن الأصنام لا تستوي والخالق سبحانه؛ لأن هذه نتيجة مثل العبد المملوك والحر، ولذا أتبع الاستفهام بتقرير حقيقة أن الله هو المستحق للحمد وحده (هل يستوون الحمد لله).

- (الحمد لله) فيها رد على المشركين أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للحمد وحده، حيث إن الكفار كفروا بنعمة الله رغم أن الله هو من رزقهم من الطيبات (ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون) (النحل: ٧٢) وأنهم عبدوا وحمدوا من لم يرزقهم ولن يرزقهم (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون) (النحل: ٧٣) فجاء الرد على الكفار الذين أشركوا بحمد الله بأن حمدوا الأصنام معه، بأن الحمد إنما هو لله وحده.

- (بل أكثرهم لا يعلمون) و (بل) للإضراب، وهذا إضراب انتقالي، والإضراب الانتقالي هو: الانتقال من أمر إلى أمر أفظع منه مع بقاء الحكم الأول، والحكم الأول هو إشراكهم بالله سبحانه وتعالى، حيث سوى الكفار بين الأصنام وبينه سبحانه وتعالى.

- ولكن لماذا (أكثرهم لا يعلمون) لا كلهم؟

وذلك؛ لأن فيهم السادة والزعماء وأصحاب المصالح الذين يعلمون الحق ولكنهم ردوه عن علم لأجل مصالحم.

- ولكن قد يسأل سائل: إن كان الكفار لا يعلمون فلماذا يحاسبهم الله سبحانه وتعالى، مع أن الجهل عذر من الأعذار التي ترفع العذاب، قال تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء: ١٥)؟

ولكن جهلهم هنا لا يعذرون به؛ لأنه ليس جهلا ناتجا عن عدم وصول الخبر إليهم، بل هو جهل ناتج عن جحودهم وإغلاقهم قلوبهم عن الإيمان، وعقولهم عن التفكير، ولذا فهذا الجهل من كسب أيديهم.

<<  <   >  >>