(أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون) (١٠٨)
المعنى الإجمالي:
وهذا بيان لخاتمة الآية السابقة (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين)، فهم لن يهتدوا لأنهم اختاروا الضلالة فطبع الله سبحانه على قلوبهم فلا يصل إليها الإيمان، وعلى سمعهم وأبصارهم فلا يهتدون بهما.
وهؤلاء الذين فضلوا الدنيا الزائلة على الآخرة الباقية هم الغافلون الحقيقيون.
المعنى التفصيلي:
- (أولئك) استفتاح الآية باسم الإشارة زيادة في تحقير المشار إليهم وهم المرتدون؛ لأن الإشارة إلى الشيء في سياق التكريم تكريم وفي سياق التحقير تحقير.
- (الذين) ذكر الاسم الموصول مع أن الكلام يقع بدونه "أؤلئك طبع الله على .. "؛ لأن الاسم الموصول في هذا السياق إنما هو للتشهير بهؤلاء المرتدين، أي: أؤلئك هم بعينهم الذين طبع الله على قلوبهم، فاعرفوهم.
- (طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) المقصود من الطبع هو حجب قلوب المرتدين وسمعهم وأبصارهم عن وصول الإيمان إليها.
والطبع هو: التغطية على الشيء والاستيثاق من أن يدخله شيء، وهذا ما يكون مع هذه القلوب إذ تحجب عن الإيمان والهدى.
وكذلك من معاني الطبع جعل الشيء سجية وطبيعة، ومن هنا قيل: طبع الإنسان: عادته. والطبع على قلوب المرتدين يكون بجعل الإعراض عن الإيمان والهدى طبيعة لهذه القلوب، فلا تتعظ ولا تلين أبدا.
- لم يأت التعبير بـ "طبع على قلوبهم" وإنما أسند الطبع إلى الله - سبحانه وتعالى - (طبع الله) تعظيما لهذا الطبع، لأن من طبع الله على قلبه فليس هنالك أحد في الوجود يستطيع إزالة هذا الطبع.
- (على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم) جاء الترتيب من الأعلى إلى الأدنى بالنسبة للأهمية في موضوع الإيمان، لأن القلب هو الأهم في موضوع الإيمان، والسمع أهم من البصر، ثم تأتي منزلة الأبصار في الاعتبار وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالهداية.
وإنما جاء هذا الترتيب من الأعلى إلى الأدنى - وليس العكس - تعظيما لقوة هذا الطبع، فعند اهتمامنا بمصير القائد نقول: قضي على القائد والجنود، وهذا أعظم من قولنا: قضي على الجنود والقائد. وفي هذا السياق يحتل موضوع القلب المنزلة الأهم ( ... فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج: ٤٦)
- (وسمعهم وأبصارهم) لماذا أفرد "السمع" وجمع "الأبصار"؟
قيل: أفرد السمع لأنه مصدر، والأصل فيه الإفراد، أما الأبصار فإنما هي اسم ومفردها بصر.
وهذا غير صحيح؛ لأنه قد ورد في المعاجم اللغوية كـ "الفائق" للزمخشري، و" القاموس المحيط" للفيروزأبادي وغيرهما أن البصر مصدر، يقال: بصر - أو بصر - بصرا. ويجوز في المصدر الجمع والإفراد، ولذا لا مانع من جمع "السمع".
ويبقى السؤال قائما: لماذا أفرد "السمع" وجمع "الأبصار"؟
وقد قرأت معلومات عن دماغ الإنسان، فسر بها بعض المفسرين المعاصرين سبب إفراد "السمع" وجمع "الأبصار"، ولكن هذه المعلومات لا يؤمن عليها من التغيير؛ لأنها لم ترتق لتكون قواعد علمية بدهية مسلمة، حتى نفسر بها القرآن، أما أن نفسره اليوم بمعلومة علمية ثم نغير التفسير مع تغيير المعلومة، فهذا أمر بعيد عن الصواب.
ولكن قد نقول: إن مما يدركه الواحد فينا أننا لا نستطيع أن نسمع لشخصين يقصان قصتين مختلفتين في نفس الوقت؛ لأن صوت كل واحد منهما يشوش على صوت الآخر، ولذا فهو "سمع" بالإفراد.
بينما نستطيع أن نرى عدة أشياء في وقت واحد، فإننا ننظر إلى سيارة زرقاء اللون، وإلى زجاجها الأسود، دون أن يشوش النظر إلى لون السيارة على النظر إلى لون الزجاج، ولذا فهو "أبصار" بالجمع. والله أعلم وعلمه أحكم.
- (وأولئك هم الغافلون) عن حقيقة الدنيا الخسيسة الزائلة، ولغفلتهم قدموها على الآخرة الباقية، وضمير الفصل "هم" للتخصيص، فمن غفل عن حقيقة الدنيا والآخرة إنما هو الغافل الحقيقي؛ لأنه بغفلته هذه لا يخسر تجارة أو مالا، وإنما يخسر كل حياته.