(وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) (٣٠)
المفردات:
- حسنة: ضد سيئة، والمقصود بها - هنا - الحياة الطيبة.
- نعم: كلمة تقال للمدح، وهي ضد كلمة: بئس.
المعنى الإجمالي:
جاء في الآيات السابقة سؤال الكفار عن القرآن (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) (النحل: ٢٤) فأنكروا أنه منزل من عند الله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك بينت الآيات سوء عاقبتهم.
وجاءت هذه الآية مبينة أن المؤمنين لما سئلوا عن القرآن، وصفوه بالخير، لأنه يدل على خير الحياة الدنيا وخير الحياة الآخرة، ولأنه رحمة وبركة وهدى لمن اتبعه.
وبينت الآية بأن الله سيجزي المتقين في الدنيا الحياة الطيبة الخيرة، وأن الآخرة خير لهم من الدنيا، وأن الجنة هي جزاءهم.
المعنى التفصيلي:
- جاء النص بـ (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم) بدون حرف الشرط، بينما جاء النص في سياق سؤال الكفار بحرف الشرط " إذا " (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين)؛ وذلك لأن حرف الشرط "إذا" يفيد التكرار، أي كلما سئل الكفار أصروا على كفرهم، ولكن من المعروف أن المؤمنين حقا إذا خالط الإيمان شغاف قلوبهم أنهم يستمرون عليه، ولذا لا داعي لبيان أن المؤمنين مصرون على إيمانهم، أما الكفار فرجوعهم عن الكفر من الأمور الواردة، ولذا جاء التعبير بحرف الشرط "إذا".
- جاء التعبير بـ (وقيل للذين اتقوا) وليس " للمتقين "؛ لأن للاسم الموصول دلالات، ودلالته هنا هي تعظيم أمر المتقين، ففي التعبير (للذين اتقوا) من التعظيم ما ليس بالتعبير بـ " للمتقين ".
- أجاب المؤمنون عن سؤال (ماذا أنزل ربكم) بـ (خيرا) والتقدير: أنزل خيرا، فـ (خيرا) مفعول به لفعل أنزل.
ولكن أجاب الكفار عن سؤال (ماذا أنزل ربكم) بقولهم (أساطير الأولين) حيث جاءت كلمة (أساطير) مرفوعة، لأن التقدير: "هو أساطير الأولين " فأساطير خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، ولا يتم التقدير بـ " أنزل " لأن هذا يلزم منه نصب كلمة "أساطير".
فالكفار لم يعترفوا بأن القرآن منزل؛ لأنهم لم يقولوا "أنزل أساطير الأولين" لأنه كيف يجمع بين أنه منزل من الله وأنه أباطيل الأولين، فالأمران متناقضان، ولذا طعنوا في القرآن دون أن يذكروا المصدر أنه من الله.
- التعبير (ربكم) له دلالة على رعاية الله لعباده، لأن الرب هو الخالق الرازق المحيي المميت الراعي لعباده، فناسب هذا المعنى مقام إنزال الوحي؛ لأن في إنزال الوحي معاني العناية والرعاية.
- (خيرا) نكرة جاءت في سياق الإثبات، أي في سياق غير منفي، والنكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق، أي أن خيرية القرآن مطلقة وغير مقيدة، فهو خير للفرد، وخير للمجتمع، وخير لشؤون التجارة والاقتصاد، وخير لتنظيم العلاقات الاجتماعية، وخير ... وخير، فهو خير مطلق كثير.
- (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) إلى هنا انتهى جواب المؤمنين، ثم بين الله سبحانه أن (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين)
وقال بعض المفسرين: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ... ) تكملة لجواب المؤمنين.
والظاهر أن قوله تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ... ) ليس تكملة لجواب المؤمنين، بل بيان من الله لعاقبة المؤمنين؛ لأن هذه الآية مقابلة لقوله تعالى السابق في هذه السورة (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (٢٤) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون (٢٥)).
فقوله تعالى السابق بين جواب الكافرين، وبعدها بين عاقبة هذا الجواب، وفي هذه الآية بيان لجواب المؤمنين، وبيان لعاقبة هذا الجواب.
وهذا أبلغ من القول بأن قوله تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ... ) تكملة لجواب المؤمنين، ولذا فهو الأرجح.
- جاء التعبير بالاسم الموصول "الذين" في قوله تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) ولم يأت " للمحسنين، لما ذكرنا آنفا أن دلالة الاسم الموصول في هذا السياق تدل على التعظيم.
- تقدم ذكر (في هذه الدنيا) على (حسنة) في قوله تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة)؛ لأن المقصود من السياق بيان حالهم في الحياة الدنيا؛ لأنه قد يظن ظان أن أجر المؤمنين منحصر في الآخرة، فجاء تقديم ذكر الحياة الدنيا لإبراز أن لهم الأجر في الدنيا أيضا وليس في الآخرة فقط، ولكن جاء التنبيه على أن أجرهم في الآخرة هو أعظم من أجر الدنيا (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين).
- تأخر ذكر (حسنة) لأنها نكرة، والخبر هو الجار والمجرور (للذين). قال ابن مالك في "ألفيته ":
ونحو عندي درهم ولي وطر ... ملتزم فيه تقدم الخبر
- (في هذه) يحتمل أن يكون متعلقا بـ (أحسنوا) أو متعلقا بـ (حسنة). وفي نهاية الأمر فإن الإحسان يقع من المحسنين في الدنيا، والحسنة - كذلك - تقع في الدنيا للمحسنين.
- ولكن قد يسأل سائل: إننا نرى كثيرا من المؤمنين يعيشون حياة خشنة، يملؤها الفقر والحاجة، فكيف وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالحياة الطيبة وحالهم هذه؟
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل لا بد من العلم أن الحياة الطيبة لا تعني الغنى ورغد العيش، وإلا فقد ذاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وذاق معه الصحابة - رضوان الله عليهم - خشونة العيش، وإنما المقصود بالحياة الطيبة، تلك الحياة التي يحياها المؤمنون، حياة ليس فيها فسق ولا انحلال ولا مجون ولا زنا، فالكفار في هذا الزمن ورغم كل ما يملكون من المال ورغد العيش يعيشون حياة خبيثة؛ لأن الحياة الطيبة هي للمؤمنين، فالزنا بينهم أشهر من أن يذكر، فهم لا يفرقون بين امرأة وأخرى، حتى أن الزنا امتد إلى نساء إخوانهم وأصحابهم، بل إلى محارمهم، وأما طعامهم، فهم لا يفرقون بين طيب وخبيث، فهم يأكلون أي شيء يخطر ببالهم، وعلى هذا فقس كل جوانب حياتهم.
ولذا فرغم الرغد الذي يعيش به الكفار، فهم المقبلون على الانتحار، علاوة على ما يعانون من اضطرابات نفسية تحرق أي فرحة في حياتهم.
ولذا فالمؤمنون أهل التوكل على الله وأهل الصبر يعيشون حياة طيبة نظيفة طاهرة.
- جاء التعبير في الآية بـ (للذين اتقوا) و (للذين أحسنوا) فلماذا أتى كل تعبير في مكان مختلف؟
جاء التعبير بـ (للذين اتقوا) في قوله تعالى (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا)؛ لأن قول المؤمنين عن القرآن بأنه خير ناشئ عن التقوى، فناسب التعبير السياق.
أما التعبير بـ (للذين أحسنوا) في قوله تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة)؛ لأن في هذا التعبير جمال لفظي، (أحسنوا) و (حسنة)، وهذا يسمى في البلاغة بالجناس.
وهذا التعبير من ناحية اللفظ أجمل إيقاعا، وهو من ناحية المعنى أقوى إشعارا بأن الجزاء من جنس العمل (للذين أحسنوا ... حسنة).
- جاء قوله تعالى (ولدار الآخرة خير) مؤكد بلام الابتداء (لدار) وكذلك لام (لنعم) في قوله تعالى (ولنعم دار المتقين)، للتأكيد على أن الأجر الأعظم للمؤمنين هو في الآخرة، وأن أجر الدنيا ليس هو الأجر الأعظم.
- والمؤمنون يعرفون هذه الحقيقة، فلماذا هذه التأكيد؟
هذا التأكيد للمؤمنين مفيد في سياق التذكير، لأن التأكيد في التذكير، فيه زيادة في التأثير، وهذا أولا، وكذلك التأكيد مفيد للظانين بأن حال المؤمنين في الآخرة مثل حالهم في الدنيا.
- جاء التعبير - في هذه الآية - بـ "الدار" عن الجنة، بينما جاء التعبير - في الآية السابقة - عن النار بـ "المثوى" في قوله تعالى (فلبئس مثوى المتكبرين)؛ لأن صاحب الدار يتصرف بإرادته، وهذا متحقق في الجنة لا في النار، وأما النار فهي سجن يعذب أصحابه فيه، ولا يتصرفون وفق إرادتهم، ولذا عبر عنه بالمثوى، وارجع - إن شئت - إلى معنى "المثوى" في تفسير الآية السابقة.