(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (١١٢)
المفردات:
- ضرب: جعل.
- مثلا: وأصل المثل: الصفة، ومعناه هنا: وصف يقاس عليه.
- رغدا: واسعا طيبا.
المعنى الإجمالي:
بعد توعد الآية السابقة المشركين بعذاب الله يوم القيامة، تتوعد هذه الآية المشركين بعذاب الله في الدنيا؛ ليعلم المشركون أن عذاب الله محيط بهم في الدنيا والآخرة.
يضرب الله - سبحانه وتعالى - مثلا حقيقيا لقرية كانت تعيش حياة آمنة هادئة منعمة، ورزقها هانئ كثير، ولكنها كفرت بأنعم الله فأبدلها الله بدل أمنها وطمأنينتها خوفا وبدل الرزق الوافر جوعا جزاء كفرها.
المعنى التفصيلي:
- (وضرب الله مثلا) وصف سبحانه وتعالى وصفا ليقيس عليه الكفار ما يفعلونه، فيعلموا أنهم مخطئون.
- (وضرب) جاء التعبير بـ "الضرب" لا "الجعل"؛ لما للضرب من وقع يلفت النظر، وهذا يتناسب والمثل، لأن المثل يلفت الأنظار، ويدق الأذهان فيوقظ النائم، وينبه الغافل.
وقيل: إن ضرب المثل من ضرب الدراهم، لأن المثل هو ذكر شيء يظهر أثره في غيره.
ولكن لا بد من العلم أن فقه معنى الكلمة يكون بالرد إلى أصل المادة، وأصل المادة "ضرب" وهو إيقاع شيء على شيء، وهذه المادة تستعمل عدة استعمالات، وفي كل استعمال يشترك معنى الضرب مع معنى آخر لينتج معنى له دلالته، فليس من الصواب ربط الكلمة بالاستعمالات؛ لأننا قد نربط الكلمة بأحد الاستعمالات ولكن يكون الربط في القدر غير المشترك بين الكلمة وأصل المادة، فيخرج الباحث عن معنى الأصل إلى معنى آخر جديد، ظانأ أنه رد الكلمة إلى أصلها، فتأمل بارك الله فيك.
- ذكر الاسم الظاهر (الله) رغم دلالة السياق عليه، ولو جاء الآية بالضمير المقدر لعلم المقصود، أي: "وضرب مثلا قرية"، ولكن إقامة الاسم الظاهر مقام المضمر إنما جاء تفخيما للمثل المضروب بذكر ضارب المثل سبحانه وتعالى.
- أبهم المثل في قوله تعالى (وضرب الله مثلا)، ثم فسر بقوله تعالى (قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها ... )، وهذا الإبهام للمثل ثم تفسيره فيه ما فيه من تفخيم المثل وتعظيمه.
- (قرية) بدل من (مثلا)، وهي مكان اجتماع الناس، ولا يلتفت إلى التقسيم المحدث في عصرنا حول المدينة والعاصمة والقرية، فهو مصطلح حادث ولا يفسر القرآن بناء عليه.
وتطلق القرية على الناس المجتمعين، (واسأل القرية التي ... ) (يوسف:٨٢)، بغض النظر أقدرنا المحذوف: أهل القرية، أو قلنا: إن هذا مجاز مرسل، بل قد ذكر بعض أهل اللغة كالمبرد في كتابه (ما اتفق لفظه، ص:٧٧) أن القرية تطلق على القوم أنفسهم. وقصده: تطلق دون تقدير لمحذوف أو القول بالمجاز.
وعلى كل فالسياق يبين المقصود من "القرية" أهو المكان أم الناس، ففي هذه الآية (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ... ) المقصود بالقرية الناس، أما في قوله تعالى (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا ... ) (البقرة: ٥٨) فالمقصود المكان.
وأصل "القرية" مادة "قري" التي تدل على الجمع والاجتماع، يقال: قريت الماء في الحوض: جمعته. ومن هنا سميت القرية لاجتماع الناس فيها.
- قيل: إن هذه القرية هي مكة، وقد روى الطبري في (تفسيره١٤/ص١٨٦) عند تفسير هذه الآية أن ابن عباس قال عن القرية "يعني مكة" ولكنه سند لا يصح؛ لأنه من طريق عطية العوفي، وأما ما روي عن التابعين ومن بعدهم فهي آراء بحاجة إلى دليل، وإنما درست السند عن ابن عباس دون التابعين؛ لأن لقوله اعتبارا وإن لم يكن في هذا المقام بدرجة الحجية، ولكنه ترجمان القرآن واسمع لقوله رضي الله عنه قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم علمه الكتاب" (البخاري: ٧٣)
والصحيح أن هذه القرية المضروبة مثلا هي قرية غير مكة، وضربت مثلا لتخويف كفار مكة ابتداء، وذلك لأن هذه القرية وصفت بأنها كافرة إذ كفرت بأنعم الله، ومكة أحب أرض الله إلى الله لم يصفها سبحانه وتعالى بصفة مشينة، ألا ترى - بارك الله فيك - كيف نزه مكة عن وصفها بالظلم في قوله تعالى (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ... ) (النساء: ٧٥) فلم يأت النص "ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمة" علما أن ذلك جائز لغة، ولو قيل "القرية الظالمة" لقصد أهلها، ولكن لتكريم مكة صرحت الآية بأن الظالم هو أهل مكة لا مكة.
ولو كانت مكة المقصودة بالقرية لقيل بناء على ما سبق "فكفر أهلها بأنعم الله". وسيأتي من الأدلة ما يثبت أن القرية هي غير مكة.
- (قرية كانت آمنة) لم يأت النص " قرية آمنة" أي: دون الفعل (كانت)، فما دلالة الفعل (كانت)؟
مما يدل عليه الفعل (كانت) أن هذه القرية قرية حقيقية (كانت) أي كان لها وجود وأصابها العذاب، وسبق الكلام على مثل هذا - على سبيل المثال لا الحصر - عند تفسير الآية (٨٧) من هذه السورة، عند قوله تعالى (ما كانوا يفترون)، حيث إن التعبير بالفعل "كان" (ما كانوا يفترون) أقوى في الدلالة من " ما يفترون " دون الفعل "كان"؛ لما يعنيه الفعل "كان" من الوجود، للتنبيه على أنه قد وقع حقا.
وهذا مما يدل - أيضا - على أن القرية ليست مكة، بل مثل ضرب لكفار مكة تهديدا لهم، والقول بأن هذه الآية إخبار عن مكة لما سيحصل لها من العذاب يتعارض والفعل (كانت).
وبهذا تعلم بعد قول القائلين " فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة "
- (آمنة مطمئنة) والأمن نقيض الخوف، والطمأنينة هي: السكون والهدوء، وقد يكون الإنسان آمنا ولا يكون مطمئنا، ولكن لماذا قدم ذكر الأمن على الطمأنينة؟
قدم ذكر الأمن على الطمأنينة؛ لأنه لا طمأنينة دون الأمن، فالأمن أولا ثم الطمأنينة
ولكن لو ذكرت الطمأنينة وحدها لتضمنت معنى الأمن، فلماذا ذكر الأمن أيضا؟
ذكر الأمن أيضا؛ لأن المقام مقام تفصيل لنعم الله على هذه القرية وليس مقام اختصار، فناسب التفصيل في ذكر النعم ما يقتضيه المقام من التفصيل في ذكر النعم.
- (يأتيها رزقها رغدا) ولو تأملنا قليلا لوجدنا فرقا بين "بسط الله لهم في رزقهم " أو "كان رزقهم رغدا" وبين (يأتيها رزقها رغدا)، فلقد بسط الله سبحانه لهم في الرزق وكان رزقهم رغدا، ولكن للفعل المضارع (يأتيها) دلالة على سهولة الحصول على هذا الرزق، وأن الرزق يأتيها دون أن تمشي إليه، وحال هذه القرية مثل حال مكة، قال تعالى ( ... أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ... ) (القصص: ٥٧) وتأمل كلمة (يجبى).
- جاء التعبير في وصف حالة الأمن والطمأنينة بالاسم (آمنة مطمئنة) ولم يأت النص بالفعل "أمنت واطمأنت"؛ لأن الاسم يدل على ثبوت الأمن والطمأنينة ودوامهما لهذه القرية، فهو ليس أمن يوم أو يومين بل على الدوام.
ولكن جاء التعبير عن الرزق بالفعل المضارع (يأتيها) لدلالة الفعل المضارع على التجدد؛ لأن إتيان الحصول على الرزق متجدد في كل يوم وكل ساعة.
- (رزقها) أي القرية، ولكن لماذا لم يأت النص "يأتيها رزق الله"؟
وللجواب عن هذا لا بد أن نعرف أن الإضافة قد تقع للفاعل والمفعول، فالإضافة للفاعل كما نقول: هذا رزق الله. من جهة أن الله - سبحانه وتعالى - هو الرزاق، والإضافة للمفعول كما في (رزقها) من جهة أن الرزق أعطي لها.
ولكن يبقى السؤال: لماذا لم يضف الرزق إلى الله سبحانه وتعالى؟
لم يضف الرزق إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن المقام مقام وصف للامتيازات التي وقعت لهذه القرية، ولذا أضيف الرزق إليها من باب النص على امتلاك القرية لهذه الامتيازات، بينما أضيف الرزق إلى الله سبحانه وتعالى في سياق آخر ( ... كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) (البقرة:٦٠) ( ... كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) (سبأ: ١٥) وهذا سياق امتنان ناسبه إضافة الرزق إلى الله سبحانه وتعالى، بينما هذه الآية وصفت ما أعطيت هذه القرية من الخير فناسبت الإضافة سياق التنعم والتملك.
- (رغدا) يقال: رغد - بفتح الغين وضمها - رغدا. والرغد الرزق: واسعه وطيبه. فهو ليس رزقا كثيرا وحسب، بل رزق طيب ليس خبيثا وليس فيه ذل في تحصيله.
- (كل مكان) عموم مخصوص؛ لأنه لا يتصور أن يأتيهم الرزق من كل مكان في هذا الكون أو حتى الأرض، وإنما معناه: (من كل مكان) يمكن أن يأتيهم منه. وهذا العموم كالعموم الذي في قوله تعالى (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) (النمل: ٢٣) فلا يتصور أنها أوتيت من كل شيء في هذا الوجود، وإنما المعنى: وأوتيت من كل شيء يعطاه الملوك.
- (فكفرت بأنعم الله) وكفرها بأن جعلت مع الله - سبحانه وتعالى - شريكا، وهذا مستفاد من أن المثل إنما ضرب للمشركين في مكة تهديدا لهم.
- (بأنعم الله) و (أنعم) جمع نعمة، وقيل: جمع نعمى، وقيل: جمع نعم، وقيل غير ذلك.
- (أنعم) جمع قلة، ولكن لماذا جاء التعبير بجمع القلة، أليس التعبير بجنس النعم أعظم في بيان جرم هذه القرية؟
قيل: جاء التعبير عن النعم التي كفرت بها هذه القرية بجمع القلة؛ للتنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان كفران النعم القليلة موجبا للعذاب، فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب.
ويضاف على هذا بأن هذه القرية على ما أوتيت من نعم فإنها لم تؤت إلا جزءا يسيرا من نعم الله سبحانه وتعالى، لأن الأمن والطمأنينة ورغد العيش ليست كل نعم الله، فتأمل.
- (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) جازى الله - سبحانه وتعالى - هذه القرية على كفرها بأنعمه بأن عذبها في هذه الدنيا بالجوع بعد رغد العيش، وبالخوف بعد الأمن والطمأنينة.
- (فأذاقها) الذوق وجود الطعم بالفم، واستعمل في العذاب بكثرة، وعلى سبيل المثال قوله تعالى (ذق إنك أنت العزيز الكريم) (الدخان: ٤٩)، واستعمل في الرحمة أيضا (ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ... ) (هود: ١٠).
وجاء التعبير بالذوق عن الإحساس بالعذاب من باب التعبير عن شدة ما يجدون من الألم؛ لأن التذوق هو بحث عن الطعم حتى يجده المرء، ولذا فمن يبلع الطعام بلعا لا يجد طعمه كمن يتذوقه تذوقا، فإن كان التذوق للنعمة زيادة في التنعم، والتذوق للعذاب زيادة في الألم؛ فأهل هذه القرية لم يتعذبوا فحسب، بل ذاقوا طعم العذاب ووجدوا ألمه.
- (لباس الجوع والخوف) ما أصاب القرية من جوع وخوف كان ملازما لها في كل أوقاتها، فليس الجوع والخوف في أوقات معينة ثم يذهبان ثم يعودان، بل هو جوع وخوف ملازمان لزوم اللباس للابسه.
وهذا من جهة، ومن جهة أخرى بدأ الجوع والخوف من شدتهما يظهران على الوجوه والأجسام، وكلنا يعرف علامات الجوع من الشحوب والنحول، وعلامات الخوف من الذهول وضعف البدن وغير ذلك من العلامات التي تظهر على الخائف والجائع، وجاء التعبير عن ظهور هذه العلامات باللباس لأن هذه العلامات أصبحت ظاهرة عليهم ظهور اللباس.
وأيضا فإن هذا الخوف والجوع محيط بهم متمكن من أجسادهم إحاطة اللباس باللابس.
- قد يسأل سائل هل يذاق اللباس، ولماذا لم يأت النص "فأذاقها الله طعم الجوع والخوف" أو "فكساها الله لباس الجوع والخوف "؟
كلمة اللباس في الآية لا تعني لباس القماش ـ وإنما تعني الجوع والخوف الشديدين كما سبق بيانه آنفا، ولذا يكون معنى الآية: فأذاقها الله الجوع والخوف الشديدين.
أما لماذا لم يأت النص "فأذاقها الله طعم الجوع والخوف" أو "فكساها الله لباس الجوع والخوف "؟
فالجواب عن هذا أن قولنا: أذاقه طعم كذا. لا يعطي إلا معنى الإذاقة، ومثله: كساه لباس كذا. لا يعطي إلا معنى الكسوة، بينما قوله تعالى (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) يعطي معنيين، الأول: الإذاقة. والثاني: الكسوة. وسبق بيان دلالة كل معنى من المعنيين.
- روي أن ابن الراوندي الملحد أراد الطعن بالقرآن فقال لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللباس؟ فقال ابن الأعرابي: هب أنك تشك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان نبيا أوما كان عربيا؟
- (الجوع والخوف) قدم ذكر الجوع على الخوف؛ لأن الجوع أعظم عذابا، ألا ترى أن الإنسان يعيش في خوف الحروب سنين ولكنه لا يستطيع أن يعيش دون طعام أكثر من بضعة أيام، ولذا من الله - سبحانه وتعالى - على أهل مكة بالإطعام أولا ثم بالأمان ثانيا، قال تعالى (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش: ٤)
- (بما كانوا يصنعون) الباء في (بما) باء السببية، أي: عذبهم الله - سبحانه وتعالى - بسبب ما صنعوا.
- جاء التعبير بـ (بما كانوا يصنعون) وليس "بما صنعوا"؛ لأن للتعبير بـ "كان" دلالته على الوجود والتحقق بما لا يدل عليه الفعل الماضي وحده.
- جاء التعبير بـ (يصنعون) وليس "يعملون"؛ لأن الصنع هو عمل وزيادة، والزيادة هي الإجادة في العمل، فهم من شدة كفرهم لم يعملوا الشرك عملا، بل صنعوا الشرك صناعة، فهم أصحاب حذاقة وخبرة في الشرك، يتفننون في ألوان الشرك تفننا، ويخترعون صورا للشرك لا تخطر على بال، وفي هذا وصف لسوء حالهم. ألا ساء ما كانوا يصنعون.