(وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون) (٩١)
المفردات:
- الأيمان: جمع يمين، وهو القسم.
- تنقضوا: تبطلوا.
- كفيلا: ضامنا وشاهدا ورقيبا.
المعنى الإجمالي:
بعد الأمر بجوامع الخير، والنهي عن جوامع الشر، أمر الله بالوفاء بالعهود، من باب ذكر الخاص بعد العام؛ لما للعهود من أهمية في تنظيم حياة الناس.
وقد أمرنا الله - سبحانه وتعالى - أن نفي بعهدنا معه أولا، وأن نفي بعهودنا مع الناس ثانيا؛ إذ كيف نحلف بالله، ونجعله ضامنا ونخلف؟!! ولذا فإن من نقض فإن له العذاب على كل ما فعل؛ لأنه لا يغيب عن الله شيء.
المعنى التفصيلي:
- قيل: أنزلت هذه الآية في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان من أسلم يبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام، (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) البيعة، فلا يحملكم قلة محمد - صلى الله عليه وسلم -وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان فيهم قلة والمشركين فيهم كثرة.
وقيل: هؤلاء قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا وأعطى بعضهم العهد، فجاءهم قوم آخرون، فقالوا: نحن أكثر وأعز وأمنع، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ففعلوا.
وقيل: نزلت في الحلف الذي كان أهل الشرك تحالفوا في الجاهلية، فأمرهم الله عز وجل في الإسلام أن يوفوا به ولا ينقضوه.
ولا يوجد لهذه الأقوال سند صحيح مرفوع أو في حكم المرفوع، وإنما حذفت الأسانيد والكلام عليها للاختصار.
ولو صح سبب نزول للآية، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- (وأوفوا) الإيفاء: الإتمام والكمال، أي يأمرنا الله سبحانه وتعالى بإتمام العهود التي ألزمنا أنفسنا بها، وإتمام العهود يكون بإتمام العمل بمقضاها.
والوفاء بالعهد واجب؛ قال تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) (آل عمران: ٧٧)
وقد وصف الله المؤمنين بالوفاء بالعهد؛ لأهميته، قال تعالى (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) (البقرة: ١٧٧) و (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) (الرعد:٢٠).
- (بعهد الله) العهد في اللغة يرجع إلى معنى الاحتفاظ، وبصيغة أخرى، معنى "العهد" في الآية هو: الموثق.
- (بعهد الله) إما أن يكون المراد به كل العهود، وإما أن يكون المراد ما يعاهد الله عليه.
فإن كان المراد به كل العهود، عندها تكون إضافة العهد إلى لفظ الجلالة "الله" إضافة تعظيم؛ رفعا لشأن العهد، وإعلاما بأنه ذو قدسية؛ لأن المسلم إذا عاهد فإنما يعاهد بصفته مسلما منتميا لدين الله، ومن هنا جاءت نسبة العهد إلى الله.
وعندها يكون للعهد صور كثيرة، فالوفاء بما ألزمه المسلم على نفسه من توحيد الله من صور الوفاء بالعهد، ووفاء الصحابة ببيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، ووفاء الناس ما تعاهدوا عليه من شؤونهم أيضا من صور الوفاء بالعهد.
- وإن كان المراد (بعهد الله): ما يعاهد الله عليه، فيكون "عهد الله" خاصا بالعهد المعقود مع الله سبحانه، وتكون الإضافة من باب الإضافة إلى المفعول.
ولقد تتبعت مادة "عهد" في القرآن فوجدت كثيرا من الآيات لا تدل دلالة واضحة على معنى "عهد الله"، بل تحتاج إلى آيات أخرى أو قرائن أخرى لتحديد المعنى.
وإن كنت أميل إلى أن "عهد الله" هو ما يعاهد الله عليه؛ لقوله تعالى (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا) (الأحزاب: ١٥) حيث جاء التعبير عن العهد المعقود مع الله بـ (عهد الله)، بينما جاء التعبير بـ "العهد" من دون الإضافة إلى الله في قوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) (الإسراء:٣٤) لأن العهد هنا معقود مع البشر على حفظ مال اليتيم، فجاء العهد من دون إضافته إلى الله.
وانظر - بارك الله فيك - إلى اختلاف إضافة "العهد" في قوله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) (البقرة: ٤٠) (بعهدي) أي: بعهد الله، وهو ما أخذه الله على بني إسرائيل من المواثيق، (بعهدكم) أي: إدخالكم الجنة.
ولاحظ معي - زادك الله حرصا - إلى الآيات التي لم يضف فيها "العهد" إلى الله، لترى أن هنالك فرقا بين العهد المضاف إلى الله وغير المضاف إليه.
( ... وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (البقرة: ١٧٧)
(بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) (آل عمران: ٧٦)
(الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ... ) (الأنفال: ٥٦)
(وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) (التوبة: ١٢)
(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) (المؤمنون: ٨)
- قد يقول قائل: إن قوله تعالى (إذا عاهدتم) يدل على اندراج كل العهود المشروعة تحت "عهد الله" لأن العهد مع الله ليس متجددا وليس اختياريا؛ لأن العهد مع الله إنما هو الإيمان والتزام أوامره واجتناب نواهيه، وهذا إنما يقع مرة واحدة عند دخول الإسلام.
وللجواب عن هذا فإن العهد مع الله سبحانه قد يكون في غير الإيمان، أليست بيعة النبي صلى الله عليه وسلم من العهد مع الله سبحانه و تعالى، كما حصل في بيعة الرضوان يوم الحديبية؛ قال تعالى (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) (الفتح: ١٠).
وكذلك من "عهد الله" ما يقطعه الواحد على نفسه من طاعة معينة لله؛ قال تعالى (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (٧٥) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (٧٦) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (٧٧)) (التوبة)
- لماذا ذكر (إذا عاهدتم) في قوله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) مع أن الوفاء بالعهد لا يجب إلا إذا كان هنالك معاهدة، وكذلك فالنص مفهوم دون هذا الشرط؟
ذكر (إذا عاهدتم) من باب الحض والحث على الوفاء بالعهد، أي أن إيجاب الوفاء بالعهد سببه ما وقع منكم من العهد، ولذا جاء التذكير بما التزموه من العهد لحثهم على الوفاء به.
- (ولا تنقضوا الأيمان) والنقض إفساد ما أبرم من عقد أو بناء، و (الأيمان) جمع: يمين، وهو القسم، وقد قيل: إن سبب تسمية القسم يمينا؛ هو أن العرب كانوا إذا تحالفوا ضرب كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه.
- (بعد توكيدها) وليس معنى التوكيد هنا هو إعادة اليمين وتكرارها؛ لأن إعادة اليمين وتكراره ليس مطلوبا في العقود والمواثيق، بل المعنى هو (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) بذكر اسم الله أو صفة من صفاته، وعبر عن عقد اليمين والتلفظ بها بالتوكيد؛ لأن هذا هو حقيقة عقد اليمين والتلفظ بها. وهذا شبيه بذكر (إذا عاهدتم) في قوله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)، أي: جاء ذكر (بعد توكيدها) للحض والحث على الوفاء بالأيمان.
وقد يقال: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) العهد والعقد، وهذا أيضا وارد.
وقيل: معنى (بعد توكيدها) إخراج يمين اللغو؛ لأنها ليست مؤكدة؛ لأن صاحبها لم يقصدها.
وهذا غير صحيح؛ لأن الأيمان المقصودة في الآية هي أيمان العقود والعهود، وليست من باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. (مسلم: ٣١١٥)
ولا بد من العلم بأن يمين العقود والعهود وحقوق العباد ليست على نية الحالف، بل هي على نية من يحلف له؛ لأنها لو تركت على نية الحالف؛ لكان فيها هضم لحقوق العباد، فلا يقبل قول قائل: إنني حلفت لكم يمينا على هذا العهد؛ ولكنه كان لغوا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك (مسلم: ٣١٢١)
- (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) وهذا حث آخر على الوفاء بالأيمان؛ فالواو في قوله تعالى (وقد جعلتم) واو الحال، و (قد) للتأكيد، أي: أوفوا بالأيمان ولا تنقضوها؛ لأن حالكم هو أنكم جعلكم الله كفيلا عليكم.
- (عليكم كفيلا) تقديم الجار والمجرور (عليكم) زيادة في التحذير من نقض الأيمان، وذلك لأنكم جعلتم الله كفيلا، ولكن احذروا فإنكم جعلتم الله كفيلا عليكم أنتم وليس على غيركم.
- (عليكم كفيلا) وليس "عنكم كفيلا"، أو "كفيلكم"؛ وذلك لتضمين (كفيلا) معنى رقيبا وشاهدا.
ولكن لماذا هذا التضمين؟
جاء هذا التضمين لتكون الجملة بقوة جملتين، فهو سبحانه وتعالى ضامن، وزيادة على ذلك هو شاهد ورقيب يرى كل ما يقع.
وفي هذا التضمين إعلام لمن يعقد الأيمان ويجعل الله سبحانه ضامنا لهذه العقود، إعلام له بأن جعلك الله سبحانه ضامنا ليمينك يقتضي أن يعاقبك على نقضه، فهو شاهد ورقيب لما تفعل.
- (إن الله يعلم ما تفعلون) وهذا تهديد وتحذير من نقض الأيمان؛ لأن الله يعلم كل ما تفعلون، ومن ضمنه يعلم سبحانه نقض الأيمان فيجازي عليها.
- قوله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) متضمن لقوله (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها)؛ لأن حقوق العباد مندرجة تحت حقوق الله، لأن من طاعة الله إعطاء العباد حقوقهم، ولكن ذكر قوله تعالى (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) من باب التنصيص لأجل التفصيل والتأكيد.