للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (٨٩)

المفردات:

- نبعث: نرسل.

- شهيدا: شاهدا، وهو نبي كل قوم.

المعنى الإجمالي:

وما زال السياق سياق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله سيبعث في كل أمة من الأمم نبيهم الذي أرسل منهم شاهدا عليهم، وسيكون محمد - صلى الله عليه وسلم - شاهدا على قومه.

وكذلك فإن الله سبحانه أنزل القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - تبيانا لكل شيء تحتاجه أمته لصلاح دنياها وآخرتها، وهدى من الضلال، ورحمة لمن آمن به واتبعه، بل رحمته تتعدى من لم يؤمن، وكذلك أنزله سبحانه وتعالى ليكون بشرى للمسلمين.

المعنى التفصيلي:

- قال كثير من أهل التفسير: هذه الآية تكرير لقوله تعالى (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) (النحل: ٨٤)، وقالوا: هذا التكرير لتأكيد التهديد.

ولكن قوله تعالى (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) (النحل: ٨٤) جاء في سياق تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم- بما سوف يحل بالكفار المكذبين من شهادة أنبيائهم عليهم، وبما سوف يلاقيهم من العذاب، وفق ما سبق بيانه في محله، بينما قوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء .... ) (٨٩) هو تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم بما له من مقام الشهادة، تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) ففيه زيادة في المعاني عن الآية (٨٤)، وهو أيضا توطئة لذكر شهادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولما جاء من تخصيص الأنبياء عليهم السلام بالبعث (نبعث)، والنبي صلى الله عليه وسلم بـ (وجئنا بك).

- الواو (ويوم نبعث) استئنافية، و (يوم) مفعول به لفعل محذوف تقديره: اذكر، أو: خوفهم.

وتقدير الفعل بـ "اذكر" أنسب في السياق؛ لأن السياق سياق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقدير الفعل بـ "خوفهم" فإنما يكون في سياق الإرشاد والأمر لا في سياق التسلية.

- (نبعث) النون للتعظيم؛ لأن هذا الأمر عظيم لا يقدر عليه إلا العظيم سبحانه وتعالى.

- (نبعث) أصل البعث في اللغة: الإثارة، ويختلف معناه وفق السياق، ففي قوله تعالى ( ... والموتى يبعثهم الله ... ) (الأنعام: ٣٦) يكون معنى البعث: إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم وتسييرهم إلى المحشر.

وفي هذه الآية (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا) يكون معنى (نبعث) هو: نرسل يوم القيامة النبي ليشهد على قومه.

- جاء النص (نبعث في كل أمة شهيدا) (نبعث في)، بينما جاء النص في الآية (النحل: ٨٤) (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ... ) (نبعث من) وليس "في"، فما الفرق بين النصين؟

لقد بحثت فيما كتب فلم أجد - وفق جهدي - إلا من قال: ليوجد التفنن بين المكررين تجديدا لنشاط السامعين. ومنهم من قال: إن "في" بمعنى "من".

ولكن هنالك فرق بين "من" و"في"، أما أن الحروف يقوم بعضها مكان بعض دون معنى زائد لهذا الاستخدام، هو مما لا يصح؛ لأن كل حرف جاء لأداء معنى، فلا يكون قيام حرف مكان حرف ولا كلمة مكان كلمة إلا لمعنى زائد، عرفه من عرفه، وجهله من جهله.

فالبعث في قوله تعالى (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا .... ) (النحل: ٨٤) هو بمعنى "جئنا" كقوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ... ) (النساء:٤١) وكمعنى "نزعنا" (ونزعنا من كل أمة شهيدا ... ) (القصص: ٧٥)؛ لأن أصل البعث الإثارة.

و قوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا) معناه أن الله يرسل النبي ليكون مقامه في قومه شاهدا عليهم.

أما لماذا استخدم هنا حرف "من" وهنا حرف "في" فبيانه ما يلي:

استخدم حرف "من" في قوله تعالى (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا .... ) (النحل: ٨٤) للدلالة على أن النبي هو من القوم، أي: من أنفسهم، أما في قوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) فلا حاجة لاستخدام حرف "من" ليدل على أن النبي من القوم، لقوله تعالى (من أنفسهم) مما أغنى عن حرف "من".

ولو قلنا في غير التنزيل " ويبعث الله من كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم" لكان معناه " يبعث الله منهم شهيدا منهم" وهذا ليس من البلاغة.

فـ"في" لا تغني عن "من"، قال تعالى (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) ((البقرة: ١٢٩) فمبعث الرسول فيهم لا يعني أنه منهم؛ لأن معنى (منهم) أي: من أنفسهم.

- (شهيدا) أي من يشهد على الأمم، فالشهداء في هذا السياق هم الأنبياء، ولا يدخل فيهم الملائكة؛ لقوله تعالى (شهيدا عليهم من أنفسهم) والملائكة ليست من جنس الأمم المشهود عليها.

- ما الفرق بين " الشاهد" والشهيد

الشاهد اسم فاعل، والشهيد صفة مشبهة، وتدل الصفة المشبهة على الثبوت، أكثر مما يدل عليه اسم الفاعل، والتعبير عن النبي الذي يشهد على قومه بـ (الشهيد)؛ للدلالة على أنه لا يمارس الشهادة فحسب، بل الشهادة وصف ثابت له.

- قيل: إن المقصود بالشهيد هو أعضاء الإنسان التي ينطقها الله تعالى.

وهذا قول ضعيف؛ لأن قوله تعالى (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) يبين أن المعنى هو: يبعث الله نبيا في كل أمة ليشهد عليها، وأنت يا محمد ستكون شهيدا على هؤلاء الكفار.

ولو كان المقصود بـ (شهيدا) أعضاء البشر، لكان المعنى: ونجعل أعضاء البشر شهداء على كل البشر، ونجعلك أنت شهيدا على هؤلاء.

فانظر - بارك الله فيك - إلى ركاكة المعنى الذي يحفظ عنه كلام البشر، فما بالك بكلام رب العالمين؟!

- (من أنفسهم) فهم ليسوا ملائكة وليسوا خلقا آخر، بل هم منكم يعرفونكم، ويعرفون أحوالكم وأخباركم وأفعالكم وكل شيء عنكم.

- (وجئنا) الواو للعطف، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - سيشهد على أمته كما يشهد الأنبياء على أممهم.

- و الـ"نا" في (وجئنا) للتعظيم، فالمجيء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عظيم لا يقدر عليه إلا العظيم سبحانه وتعالى.

- ولكن لماذا جاء الفعل (نبعث) مضارعا والفعل (جئنا) ماضيا؟

هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كانت الآية إبرازا لشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة، فجاء الفعل الخاص بالأنبياء (نبعث)، والخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم (جئنا)، لأن فعل "بعث" لا يدل بمجرده إلا على الإرسال والإثارة دون الوصول، بينما الفعل "جاء" يدل على الوصول، فنقول: بعثت زيدا إلى السوق. وهذا البعث لا يدل على الوصول بمجرده إلا بوجود قرينة دالة على وصول زيد إلى السوق، أما قولنا: جاء زيد السوق. يعني أنه وصل.

ولذا ما سبق من أن البعث لا يلزم منه الوصول، والمجيء يلزم منه الوصول، فتخصيص المجيء للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه التشريف؛ للتنصيص على قمة مقام الشهادة، وهو قيام النبي مقام الشهادة، بينما الأنبياء بعثوا إلى الشهادة، وهم سيقومون مقام الشهادة، إلا أنه لم ينص على ذلك في هذا السياق تكريما للنبي صلى الله عليه وسلم.

- وجاء النص (وجئنا بك) وليس " وجئت "؛ لأن معنى " جئت ": وصلت وحدك، أما (وجئنا بك) فمعناه: أحضرناك، والمجيء بأحد من الناس ليس كبعثه، قال تعالى (وجيء يومئذ بجهنم .... ) (الفجر: ٢٣) فعن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) (مسلم: ٥٠٧٦) والزمام: الحبل الذي يسحب به.

فالنبي صلى الله عليه وسلم يجاء به، والذين يجيئون به هم الملائكة، فهو موكب ملائكي يحضر النبي صلى اله عليه وسلم، والإحضار في مقام التشريف تعظيم للتشريف، وفي مقام الإدانة تعظيم للإدانة، وما إحضار النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشهد على قومه إلا مقام تشريف.

ولا يفهم أحد أنني لا أقدر الأنبياء قدرهم، ولكن هذا هو أسلوب التشريف، ولذا فالناظر في قوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (النساء: ٤١) يرى أن الآية قد جاءت في حق الأنبياء بـ (إذا جئنا ... بشهيد) وليس "إذا بعثنا" كما جاءت بحق النبي صلى الله عليه وسلم (وجئنا بك)؛ لأن السياق ليس سياق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو سياق تهديد للكفار، فذكر الأنبياء عموما والنبي صلى الله عليه وسلم بما يدل على كمال مقام الشهادة، وهو وصول الأنبياء لمقام الشهادة، ومن كمال التهديد، التهديد بكمال ما يكون به التهديد.

- (بك) أي يا محمد، وكان من جهة المعنى أن يكتفى بـ (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) فيشمل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكنها التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.

- (شهيدا) حال من كاف المخاطب (بك)، وهذا تشريف للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يكون مقامه مقام الشهيد، في يوم لا يكون لأحد فيه مكانة إلا من جعل الله - سبحانه وتعالى - له المكانة.

- (هؤلاء) أي الكفار، ولكن لماذا ذكر الجار والمجرور (على هؤلاء) بعد (شهيدا) في قوله تعالى (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء)، بينما تقدم ذكر الجار والمجرور في قوله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (النساء: ٤١)؟

سياق آية النحل سياق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا قدم ذكر (شهيدا) لتشريف النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب التسلية، أما سياق آية النساء، فتقدم الجار والمجرور لأن محور السياق هو التهديد للكفار، وانظر - بارك الله فيك للسياق:

(الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (٣٧) والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (٣٨) وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما (٣٩) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (٤٠) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (٤١) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا (٤٢)) (النساء)

أما ما قيل: إن تقديم الجار والمجرور في آية النساء من أجل الفاصلة القرآنية، أي مراعاة لجانب الجمال الصوتي في ختم الآية، وهذا ما يقابله في الشعر ما يعرف - من باب التقريب - بالقافية، فهذا لا يصح؛ لأن الله قادر على أن يأتي بصيغة أخرى تراعي الفاصلة دون هذا التقديم، وكيف يكون هذا مع أن للتقديم معنى؟!!

- قد يقال: كيف نوفق بين قوله تعالى (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) (المائدة: ١٠٩) وبين قوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ... ) (النحل: ٨٩)؟

الجواب عن هذا أن آية النحل واضحة بينة في شهادة الرسل على أقوامهم، وفي القرآن غيرها من الآيات مما يدل على شهادة الرسل على أممهم، بينما آية المائدة تحتمل عدة احتمالات:

الأول: لا علم لنا، أي: بالمقارنة مع علمك، فنحن نعرف ظواهر الأمور لا بواطنها.

الثاني: من باب التأدب، ولله المثل الأعلى، فالطالب من يتأدب أمام العالم عندما يسأله عن معرفته بالعلم، فيقول له: العلم عندكم، أما أنا فبحاجة أن أتعلم. علما بأن المسؤول قد يكون على حظ ما من العلم، ولكنه التأدب مع البشر، فكيف بالتأدب مع الله سبحانه وتعالى رب البشر؟؟!!

وقيل غير ذلك، وخلاصة القول، أن ما يحتمل عدة معان، يحمل على ما هو أحكم منه وأوضح، فالرسل يشهدون على أقوامهم، وفي ضوء هذا المعنى المحكم تفهم الدلالات المتشابهة، أي: إنما السبيل برد المتشابه إلى المحكم.

- (ونزلنا) الواو للعطف، أي يا محمد لا تحزن من تكذيب هؤلاء؛ فإنك ستقوم عليهم شهيدا يوم القيامة، وكذلك يا محمد فقد نزل الله عليك القرآن. وكل هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.

أما من قال: إن الواو استئنافية، فإنه لم ينتبه إلى أن الآية في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها تعدد نعم الله على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك تسلية له عليه الصلاة والسلام، ومعنى الآية: يا محمد لا تحزن فإن لك مقام الشهادة على هؤلاء، وإنا قد أنزلنا إليك القرآن تبيانا ......

- (ونزلنا) "نزل" فعل مضعف للتعدية، أي: حتى يتحول الفعل من كونه لازما، إلى فعل يتعدى إلى مفعول.

و"نا" للتعظيم؛ لأن أمر تنزيل القرآن أمر عظيم لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى الواحد العظيم.

- لكن لماذا العدول في القرآن عن تعدية الفعل بالهمزة "أنزل" إلى تعديته بالتضعيف "نزل

قيل: العدول عن تعدية الفعل بالهمزة "أنزل" إلى تعديته بالتضعيف"نزل"؛ لتقوية معنى الفعل، قال تعالى (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) (آل عمران: ٣) فقوله تعالى (نزل عليك الكتاب) أهم من (وأنزل التوراة والإنجيل) للدلالة على أن نزول القرآن عظيم، وأنه أعظم من التوراة والإنجيل.

وقيل: العدول عن تعدية الفعل بالهمزة "أنزل" إلى تعديته بالتضعيف "نزل"؛ للدلالة على نزوله منجما، قال تعالى (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) (آل عمران: ٣) فالقرآن نزل منجما، بينما التوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة.

أقول: قد يكون هذين القولين مقبولين في تفسير (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل)، وكذلك في تفسير قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ... ) (النساء: ١٣٦)؛ وذلك لورود (نزل) و (أنزل) في آية واحدة، أو سياق واحد، بينما لا يكون مقبولا في كل آيات القرآن؛ لقوله تعالى (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) (الفرقان: ٣٢) فالكفار طلبوا أن ينزل القرآن جملة واحدة بفعل مضعف (نزل)، وهذا يرد أن التضعيف لتقوية المعنى تعظيما للقرآن، ويرد على أن التضعيف يعني نزول القرآن منجما؛ لأنهم طلبوا نزوله جملة واحدة (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)

وقال تعالى (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (الزخرف: ٣١) فـ (نزل) ليس لتقوية المعنى تعظيما للقرآن.

ولو كانت التعدية بالتضعيف أقوى من التعدية بالهمزة، لكان الإنزال في قوله تعالى (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) (الشعراء: ١٩٨) أقوى منه في قوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) (الدخان: ٣) (إنا أنزلناه في ليلة القدر) (القدر: ١)، وهذا غير صحيح؛ لأن السياق في سورتي (الدخان) و (القدر) لتعظيم القرآن.

وقد استعرضت كل آيات القرآن التي ورد فيها الفعل "نزل" معدى بالهمزة والتضعيف، ولكني لم أحصل على نتيجة يطمئن إليها القلب، وإن كتب الله في العمر بقية فسأدرس هذه الآيات وفق سياقها، لعلي أقف على فائدة ما قد يدلني عليها السياق.

- (ونزلنا) جاء الفعل ماضيا مع أن نزول الكتاب لم يكتمل؛ لأن المقصود بالكتاب هو القرآن، والقرآن هو كلام الله، أي: نزلنا عليك كلام الله.

إذن؛ يصدق تنزيل كلام الله على تنزيل آية، وقد نزل قبل هذه الآية آيات وآيات.

- ولكن لماذا جاء الفعل ماضيا في قوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب) بينما جاء فعلا مضارعا (ننزل) في قوله تعالى (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ... ) (الإسراء: ٨٢)؟

جاء الفعل ماضيا في قوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب)؛ لأن الهدف من إنزال القرآن أن يكون (تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)، وهذا الهدف متحقق بنزول أول آية من القرآن، لأنها عندما نزلت إنما نزلت لأجل هذا الهدف.

بينما آيات الشفاء والرحمة لم يكتمل نزولها وقت نزول قوله تعالى (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ... ) (الإسراء: ٨٢)، فجاء الفعل المضارع ليرشدنا إلى أن التنزيل ما زال مستمرا.

- (ونزلنا عليك الكتاب) ذكر الجار والمجرور (عليك) أي: يا محمد؛ تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك قدم ذكر الجار والمجرور؛ لأن السياق ابتداء إنما هو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.

- (الكتاب) أي: القرآن، و"الكتاب" في أصله مصدر، نقول: كتب كتابا، وكتب كتابة، كقوله تعالى (وكل شيء أحصيناه كتابا) (النبأ: ٢٩) أي: كتابة، و (الكتاب) اسم للصحيفة مع المكتوب فيها.

ويطلق اسم "الكتاب" على القرآن وغيره، وإطلاق الكتاب على القرآن مجردا عن أي إضافة يدل على تعظيمه، فهو الكتاب الأعلى ولا كتاب غيره في مقامه.

- (تبيانا) مصدر على وزن تلقاء، وهو مفعول لأجله، وما بعده (وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) معطوف عليه، لأن القرآن نزل لأجل هذه الأشياء، أو أن (تبيانا) مصدر في موضع الحال، وهذا أيضا مقبول؛ لأن قوله تعالى (تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) يدل على حال القرآن.

وإن كنت أميل إلى أن (تبيانا) مفعول لأجله؛ قال تعالى ( ... وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ... ) (النحل: ٤٤) فاللام في (لتبين) للتعليل، وهذا معنى المفعول لأجله، فالذكر إنما أنزل لأجل التبيان.

- (تبيانا لكل شيء) أي: لكل شيء يحتاجه الناس في دينهم، لأن القرآن كتاب هداية، ففيه كل ما يتصل بالهداية، ومما لا يصح هو أن نطلب أي علم في القرآن بدعوى أنه تبيان لكل شيء، لأن هذا العموم مخصوص، كما لا يقبل قول القائل: إن ريح عاد دمرت الشمس والقمر والكواكب إلا مساكنهم الخالية بدليل (تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) (الأحقاف: ٢٥) وإن كان قوله تعالى (تدمر كل شيء) عموما، لكنه عموم مخصوص بأن الريح التي أرسلت على عاد تدمر كل شيء تدمره الريح في قوم عاد، وكذلك قوله تعالى (تبيانا لكل شيء) أي من الأشياء التي نزل القرآن لبيانها من هداية الدين.

فعلم الخياطة ليس في القرآن؛ لأنه لا ارتباط له بالهداية، وهذا الأمر من الوضوح بمكان، ولولا أن كثيرا من الناس أخذ يبحث عن أصول علوم دنيوية في القرآن محتجا بهذه الآية لما علقت، وإنني لأشاهد في كل يوم باحثا يخاطب العامة عبر الفضائيات ليقول لهم: إن الآيات كذا وكذا أسست لعلم كذا وكذا، ويحمل الآيات من المعاني ما يستحيل أن يفهم منها.

وكذلك قوله تعالى ( ... ما فرطنا في الكتاب من شيء ... ) (الأنعام: ٣٨) فالكتاب هنا على الراجح هو اللوح المحفوظ، لأننا لا نجد كل شيء في القرآن، وإن حاول بعض أهل العلم إثبات ذلك، فإن من المعلوم بداهة أن القرآن لا يحتوي على تفصيل كل شيء على الإطلاق، وسياق الآية هو (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون) (الأنعام: ٣٨) وهو سياق يتكلم عن كل الداوب في الأرض وعن كل الطيور، وهل يحوي القرآن تفصيل كل هذه الأشياء؟!!

وإذا قلنا: إن الكتاب هو القرآن، فيكون المعنى: ما فرطنا في بيان أي شيء يخص الهداية.

- وقد احتج بعض الزائغين بقوله تعالى (تبيانا لكل شيء) على رفض السنة، بحجة أن القرآن فيه بيان كل ما يحتاج الناس في الدين.

فيقال لهؤلاء: نعم، إن القرآن بين كل ما نحتاجه في الدين، وبين لنا أن نطيع الرسول بما أمر، وننتهي عن ما نهى عنه وزجر؛ قال تعالى ( ... وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) (الحشر: ٧)، وقال تعالى (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) (المائدة: ٩٢).

- (وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) وحمل الهداية على المعنى الواسع الذي يشمل المؤمنين والكفار هو الأولى؛ إذ لا مقيد كما في قوله تعالى (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (البقرة: ٢)، وكذلك الرحمة، فحملها على المعنى الواسع أولى، فالقرآن رحمة للمؤمنين، وكذلك ينول الكفار من رحمة القرآن بما سن لنا من العدل والحق وغير ذلك، أما البشرى، فإنما هي للمسلمين الذين استسلموا لربهم وخضعوا له وعملوا الصالحات.

- روى الطبري عند تفسيره هذه الآية قولا لابن مسعود: أنزل في هذا القرآن كل علم، وكل شيء قد بين لنا في القرآن. ثم تلا هذه الآية، أي ( ... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ... ).

ولكن سند هذا الأثر عن ابن مسعود ضعيف؛ لأن فيه راو مبهم. ولو صح الأثر لكان المقصود من كلام ابن مسعود (كل علم، وكل شيء) أي مما يحتاجه الناس في دينهم؛ لما سبق من بيان معنى الآية، فلا حاجة للإعادة.

<<  <   >  >>