(ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) (١٠٧)
المعنى الإجمالي:
بعد أن توعد الله - سبحانه وتعالى - المرتدين بالغضب والعذاب، جاءت هذه الآية معللة لاستحقاق المرتدين لهذا الغضب والعذاب.
واستحقاق المرتدين لغضب الله وعذابه يعود إلى أمرين، الأول: تفضيلهم الحياة الدنيا على الآخرة، والثاني: أن الله - سبحانه وتعالى - لا يهدي من اختار الكفر، ولذا تركهم في ضلالتهم فاستحقوا ما استحقوا من الغضب والعذاب.
المعنى التفصيلي:
- (ذلك) "ذا" اسم إشارة، واللام للبعد، والكاف للخطاب، واختلف في تعيين ما تعود عليه الإشارة، هل هو الارتداد عن الإسلام أم غضب الله وعذابه؟
فإن قلنا: إن المقصود هو الارتداد عن الإسلام، كان المعنى: من ارتد عن الإسلام فإنما ارتد لإيثاره الدنيا على الآخرة، ولأن الله لا يهدي من يريد الضلالة فأبقاه ضالا.
ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا) (صحيح مسلم ج١/ص١١٠) والشاهد في الحديث (يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وإن قلنا: إن المقصود هو غضب الله وعذابه، كان المعنى: غضب الله على من ارتد عن الإسلام وأعد له العذاب؛ لأنه آثر الدنيا على الآخرة، ولأن الله لا يهدي من اختار الضلالة فأبقاه ضالا.
والمعنى الثاني يتضمن المعنى الأول؛ فغضب الله على المرتد كان بسبب إيثاره الدنيا على الآخرة، ويفهم من هذا الكلام أن سبب الارتداد هو إيثار الدنيا على الآخرة، ويفهم منه أن سبب الغضب والعذاب وسبب الارتداد هو ترك الله لمن أراد الضلالة في الضلالة، ولذا ارتد ولذا استحق العذاب.
وكما تلاحظ فإن القول الثاني متضمن للقول الأول؛ فعود اسم الإشارة إلى ما استحقه المرتد من غضب الله ومن العذاب هو أبلغ وأولى.
- (بأنهم) الباء للسبب، والضمير "هم" يعود على المرتدين.
- (استحبوا) صيغة الاستفعال الدالة على الطلب تفيد التأكيد على قصد الفعل، فهم لم يحبوا فقط بل طلبوا الحب طلبا؛ زيادة في المبالغة في الإقبال على الدنيا.
وضمن (استحبوا) معنى "فضلوا"؛ ولذا عدي الفعل بـ "على"، فالإنسان قد يفضل شيئا لا لحبه بل للمصلحة، ولكن هؤلاء لم يقدموا الدنيا لمجرد المصلحة فقط، بل قدموها من فرط حبهم لها، وحبهم هذا ناشئ من بغضهم للآخرة وما يترتب على ذلك من إيمان؛ ولذلك ارتدوا.
- (الحياة الدنيا على الآخرة) وسميت "الدنيا" بهذا الاسم؛ لقربها؛ نقول: دانيت بين الأمرين إذ قربت بينهما، وسميت "الآخرة" بهذا الاسم؛ لأنها آخر المطاف إذ لا حياة بعدها.
- (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) وهذا سبب ثان لاستحقاق المرتدين لغضب الله وعذابه، وهو أن الله تركهم في الضلالة فاستحقوا ما استحقوا؛ لأن الله لا يهدي من يريد الضلالة، قال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) (الأنعام: ١١٠) وقال تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ... ) (مريم: ٧٥)، وقال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (الصف: ٥).
وقد سبق الكلام على مثل هذا في غير موضع في هذه السورة، وعلى سبيل المثال عند قوله تعالى (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين) (٣٧)
- (القوم الكافرين) جاء التعبير بـ "القوم" للإشارة إلى أن المقصودين هم من أصبح الكفر صفتهم التي عليها يجتمعون، ولأجل هذه الصفة المشتركة استحقوا إطلاق "قوم" عليهم.
وأحب أخي القارئ أن أستطرد عند هذه النقطة، وهي أن الذين يستحقون الإضلال هم من تمكنوا في الضلالة لا من زل جهالة وعاد إلى رشده، وتأمل معي قوله تعالى (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا (٧٥) ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا (٧٦)) (سورة مريم).
فإن الله لا يمد الضال في الضلالة إلا إذا أصبح فيها، محيطة به في كل نواحي حياته، قد تمكن منها وتمكنت منه (قل من كان في الضلالة)، فهو لم يضل فقط، بل هو في الضلالة، بينما يزيد الله - سبحانه وتعالى - من لامس الهداية ملامسة حتى وإن لم يتمكن منها (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) وهذا من لطفه وكرمه سبحانه وتعالى، وهذا معنى "القوم" في قوله تعالى (القوم الكافرين)، فهم ما استحقوا الإضلال إلا بعد أن تمكنوا من الكفر وأصبح صفتهم التي عليها يجتمعون.