للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) (١١١)

المفردات:

- تجادل: تدافع.

- توفى: تعطى جزاءها كاملا.

المعنى الإجمالي:

بعد أن توعدت الآيات السابقة المرتدين وبشرت المؤمنين، جاء التذكير بيوم الوفاء لما سبق من وعد أو وعيد.

ففي يوم القيامة يدافع المكلفون عن تقصيرهم لينجوا بأنفسهم، ولكن تعطى كل نفس حقها كاملا، ولا يظلم أحد عند الله سبحانه وتعالى.

المعنى التفصيلي:

- نصب (يوم) بفعل مقدر تقديره: اذكر، وقيل: بل هذه الآية متصلة مع ما قبلها، فيكون المعنى: إن الله لغفور رحيم يوم القيامة .... .

والأظهر في الآية أنها استئناف وابتداء؛ لأن الآية أساس في بيان للعدل الإلهي يوم القيامة، وهذا هو المعنى الرئيسي، وكون الآية متصلة بما قبلها يجعل من بيان عدل الله - سبحانه وتعالى - معنى جانبيا، الغرض منه التعريف بيوم القيامة بحدث يحدث فيه، وهذا لا يتناسب وعظيم جزالة البيان الإلهي للعدل يوم القيامة، فالآية مستقلة ببيانها، ومتناسبة مع ما قبلها بأن هذا يوم القيامة يوم الوفاء بالوعد والوعيد، وهذا أولا.

وثانيا: عند القول بأن الآية متصلة بما قبلها، فإن معاني مغفرة الله ورحمته بالمؤمنين لا تكون بعموم وشمول كونها مستأنفة، لأن اللفظ يقيد الرحمة والمغفرة بيوم القيامة، ولا يفهم عندئذ شمول الرحمة إلا من نص آخر، ولكن عندما تكون الآية مستأنفة، فإن نص الآية يدل على شمول الرحمة والمغفرة للدنيا والآخرة، ولا تحتاج دلالة الشمول الرحمة للدنيا والآخرة على نص آخر.

وعندما يؤدي النص معنى أعظم وأوسع مع تناسبه مع السياق وقواعد التفسير، فهو الأولى؛ لأنه يحمل المعنى الواسع والأوسع، فهو يحمل معنيين، وليس من الصواب حذف معنى من المعاني من غير دليل ظاهر يدل عليه.

وموضوع الآيتين التفصيلي مختلف، فالآية السابقة تبين أن الله - سبحانه وتعالى - غفور رحيم، وهذه الآية تبين أن الله عادل لا يظلم، والمغفرة والرحمة أمران فوق العدل؛ لأن من العدل أن يعاقب كل مسيء، ولكن من رحمة الله ومغفرته أنه يرحم بعض المسيئين ويغفر لهم، فموضوع الآيتين التفصيلي مختلف؛ ولذا فليس بينهما اتصال تفصيلي، بل بينهما مناسبة إجمالية تتناسب وتوافق السياق القرآني.

- (تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) والمجادلة معروفة لا يجهلها أحد، ومقصد المجادل دفع الخطأ عنه وإثبات أنه على صواب. ومن أمثلة مجادلة الكفار (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) (الأنعام: ٢٣)

ولكن هل هما نفسان - مجادلة ومجادل عنها - أم هي نفس واحدة؟

إنما هي نفس واحدة، ولكن المقصود بالنفس الثانية: الذات. والمعنى على هذا: يوم يجادل كل مكلف عن ذاته، ولا يعنيه غيره (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) (عبس: ٣٧).

وهذه المجادلة تكون عند مخاطبة الله - سبحانه وتعالى - للعباد، وهذه الجرأة من الخلق في المجادلة إنما هي بإذن الله سبحانه وتعالى، ولو شاء الله - سبحانه وتعالى - لألقى الرعب في قلوب العباد فألجم أفواههم، ويكون الختم على أفواه الكفار في موقف آخر في المحشر (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) (يس: ٦٥)

- (وتوفى) التوفية هي: إعطاء الشيء وافيا، أي: كاملا. وحذف ذكر الفاعل (لفظ الجلالة) من باب حذف ذكر الفاعل لإبراز معنى الفعل وهو التوفية وعدم الظلم.

- (كل نفس) أعيد ذكر الكلام - رغم دلالة السياق عليه - من باب التأكيد.

- (وتوفى كل نفس ما عملت) أي: جزاء عملها، والجزاء يوم الجزاء يكون بدخول الجنة أو بدخول النار، أعاذنا الله منها وأدخلنا فسيح جنانه.

- مجادلة الخلق عن أنفسهم لا تغير شيئا من حكم الله سبحانه وتعالى؛ لأن كل نفس توفى جزاء عملها توفية كاملة، ولكن المجادلة في الدنيا قد تؤثر في القضاء؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها (صحيح البخاري ج٢/ص٩٥٢)

- (وهم لا يظلمون) الواو واو الحال، فحال العباد حين يوفون حسابهم أنهم غير مظلومين، وإن كان ما سبق من الآية يغني في بيان معنى العدل (وتوفى كل نفس ما عملت) فتوفية العباد أعمالهم توفية كاملة تدل على أن أحدا من الخلق لم يظلم، ولكن جاء التصريح بنفي الظلم؛ زيادة في التأكيد على عدل الله سبحانه وتعالى.

- والتأكيد على عدل الله - سبحانه وتعالى - في الجزاء يدل على شدة الوعيد للمرتدين، وعظيم البشارة للمؤمنين.

<<  <   >  >>