(ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون) (٤٩)
المفردات:
- يسجد: يتذلل ويعبد.
- دابة: كل ماش على الأرض.
المعنى الإجمالي:
بعد أن بينت الآية السابقة خضوع المخلوقات التي تتطلع عليها الشمس على هذه الأرض، وسجود ظلالها لله سبحانه وتعالى، تبين هذه الآية أن المخلوقات التي تسجد لله ليست هذه المخلوقات الأرضية المذكورة فقط، بل كل ما في السموات والأرض، بما في ذلك الدواب والملائكة.
المعنى التفصيلي:
- (ولله يسجد) قدم الجار والمجرور لقصر السجود على الله وحده، أي يسجدون لله وحده بلا شريك معه، وهذا فيه تعريض بالمشركين الذين يشركون مع الله سبحانه وتعالى، وأن المخلوقات الساجدة لله في السموات والأرض هي خير من المشركين، فهم دون كل هذه الأشياء.
- (يسجد) أصل السجود الانحناء والتذلل، وهو للإنسان والحيوان والنبات والجمادات.
والسجود نوعان: سجود تسخير وسجود اختيار.
فسجود التسخير، وهو سجود كل ما خلقه الله، وهذا نحو قوله تعالى (والنجم والشجر يسجدان) (الرحمن:٦)
وسجود اختيار نحو سجود المسلمين لله - سبحانه وتعالى - باختيارهم وإرادتهم.
والمقصود بالسجود في هذه الآية (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون) هو سجود اختيار وسجود تسخير؛ لأن البشر يدخلون ضمن معنى "دابة"، ولذا فمنهم من يسجد لله اختيارا، وسيأتي في تفسير هذه الآية بيان أن البشر داخلون ضمن معنى "دابة".
- لماذا جاء التعبير بـ (ما) التي تستخدم لغير العاقل في قوله تعالى (ما في السموات وما في الأرض)؟
جاء التعبير بـ (ما)؛ لأنها تستخدم للعاقل أيضا، كما في قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) (النساء:٣)، وكما في قوله تعالى (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) (يوسف: ٥٣)
وتكون (ما) للعاقل، إذا اشترك العاقل وغير العاقل في حكم واحد، كما في هذه الآية (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض) فقد اشترك العاقل وغير العاقل في حكم السجود لله.
- وتقدم ذكر السموات على الأرض لأن السموات أعظم من الأرض، وما في السموات أكثر مما في الأرض، فقدم ذكر السموات وما فيهن، من باب التدرج من الأعلى للأدنى.
- (من دابة) أي كل دابة في الأرض فإنها تسجد لله، و (من) هذه هي الاستغراقية، وهي من أحرف التوكيد.
- وجاء التعبير بالمفرد (دابة) مع أن المراد الجمع؛ ليكون أدل على أن كل فرد من الدواب مقصود بالحكم.
- (من دابة) جاء في المعاجم اللغوية أن كل ما مشى على الأرض دابة، وارجع إلى " دبب" في (تاج العروس من جواهر القاموس) لمرتضى الزبيدي؛ لترى أن الدابة تطلق على العقلاء أيضا، ولكن في السياق القرآني قد يقصد بالدابة كل ما دب على الأرض ومن ضمنه الإنسان، وهذا كقوله تعالى (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) (فاطر:٤٥)، وقد يقصد كل ما دب على الأرض دون الإنسان، كقوله تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) (الأنعام:٣٨) فالدابة هنا غير الإنسان بقرينة (إلا أمم أمثالكم).
- قدم ذكر (من دابة) على (والملائكة) حتى لا يقع الفصل بين ذكر "الأرض" وذكر "الدابة" لاتصالهما في المعنى، أي ليكون السياق (وما في الأرض من دابة).
وأيضا لأن ذكر "الملائكة" بعد ذكر (من دابة) مناسب للسياق؛ لأن الكلام الذي بعد ذكر الملائكة جاء متصلا بموضوع الملائكة (والملائكة وهم لا يستكبرون (٤٩) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (٥٠))
فجاء ذكر (من دابة) متصلا بما قبله، وذكر (والملائكة) متصلا بما بعده، ولو عكسنا الأمر في - غير السياق القرآني - بأن ذكرنا (والملائكة) أولا و (من دابة) ثانيا لانقطع السياق، وذهب جمال النص، بل لأصبح نصا ركيكا.
- (وهم لا يستكبرون) وخص ذكر عدم الاستكبار بالملائكة تعريضا بالكفار؛ لأن الملائكة العلويين النورانيين أصحاب القدرات الخارقة بالنسبة لكم أيها المشركون لا يستكبرون عن عبادة الله، وأنتم البشر الضعفاء تستكبرون!