(ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) (٨٤)
المفردات:
- نبعث: نرسل.
- شهيدا: شاهدا، وهو نبي كل قوم.
- يؤذن: يسمح.
- يستعتبون: يسترضون.
المعنى الإجمالي:
هذه الآية تكملة لسياق تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يخبره الله سبحانه وتعالى أن المشركين الذين (يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها ... ) (النحل: ٨٣) سيجزون يوم القيامة جزاء كفرهم.
فالله سبحانه وتعالى سيخرج من كل أمة من الأمم نبيها ليشهد عليها، وبعد شهادته لا يسمح للكفار أن يعتذروا، ولا يسترضون، فقد فات الأوان، وحان الهوان.
المعنى التفصيلي:
- الواو (ويوم نبعث) استئنافية، و (يوم) مفعول به لفعل محذوف تقديره: اذكر، أو: خوفهم.
وتقدير الفعل بـ "اذكر" أنسب في السياق؛ لأن السياق سياق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقدير الفعل بـ "خوفهم" فإنما يكون في سياق الإرشاد والأمر لا في سياق التسلية.
- التسلية في هذه الآية وفق سياق الآيات هي: إنك يا محمد معذور، ولا تحاسب على كفرهم، لأنك لا تكلف إلا البلاغ المبين، وأيضا فهم معاندون إذ يعرفون نعمة الله ثم يشركون، فلا تحزن يا محمد واذكر يوم يبعثون في الآخرة، حيث إن لهم الجزاء العظيم، والعذاب الأليم.
- التعبير بالجمع (نبعث) للتعظيم؛ لأنه أمر عظيم لا يقدر عليه إلا العظيم سبحانه وتعالى.
- (نبعث) أصل البعث في اللغة: الإثارة، ويختلف معناه وفق السياق، ففي قوله تعالى ( ... والموتى يبعثهم الله ... ) (الأنعام: ٣٦) يكون معنى البعث: إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم وتسييرهم إلى المحشر.
وفي هذه الآية (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) يكون معنى (نبعث) هو: نرسل يوم القيامة النبي ليشهد على قومه.
- (من كل أمة شهيدا) قدم الجار والمجرور (من كل أمة)؛ لأن المقصود أصالة في هذا السياق هو أن كل أمة سيشهد عليها، ولو قلنا في غير التنزيل "نبعث شهيدا من كل أمة " لصار المقصود أصالة من النص هو أن الشهيد سيكون متعددا بتعدد الأمم. وهذا ليس المقصود أصالة في هذه الآية، بل المقصود هو تسلية النبي بأن كل أمة سيشهد عليها وأمتك من ضمنهم، ولذا سيحاسب المكذبون على ما هم فيه، وليس المقصود هو الكلام على تعدد الشهداء، وأنهم أكثر من شهيد، وأن عددهم بعدد الأمم.
- (شهيدا) شاهدا، وهو نبي كل قوم.
- ولكن الله لا يحتاج إلى معاون لإقامة الحجة على الكافرين، فلماذا الشهداء؟
الله أعلم بما يفعل وهو لا يسأل، ولكن فيما يبدو لنا أن الله سبحانه يشهد الأنبياء على أقوامهم؛ إكراما للأنبياء، وخزيا للكفار؛ بأن الذي كنتم تحتقرونه وتكفرون به وتستهزئون، إنما هو من ستكون شهادته سببا في دخولكم النار.
- (ثم لا يؤذن للذين كفروا) (ثم) حرف عطف، وهو للتراخي الرتبي لا الزمني، فأمر شهود نبيهم عليهم عظيم، والأعظم منه عدم السماح لهم أن يتكلموا فيعتذروا،؛ لأن النبي قد يشهد على قومه، ولكن إذا سمح للكفار أن يعتذروا ويسترضوا ربهم فلا مشكلة عندهم، ولا تشكل شهادة نبيهم عليهم خطرا؛ لأنهم في هذه الحالة سوف يرضون ربهم بالاعتذار وينتهي الأمر.
- (ولا هم يستعتبون) الواو للعطف، أي لا يؤذن لهم بالاعتذار، وأيضا فإنهم لا يسترضون.
- جاء النص بذكر الضمير المنفصل (هم) من باب التهديد لهم، فلو جاء النص " ولا يستعتبون " من دون ذكر (هم)، لدل على أن الذين لا يستعتبون هم الكفار؛ لأن الإظهار في سياق يكفي فيه الإضمار إنما يكون لتأكيد المعنى.
- (ولا هم يستعتبون) أي لا يسترضون، وهو من العتبى بمعنى الرضى، أي لا يسترضون بأي شيء، كإدخالهم الجنة، أو إعطائهم فرصة أخرى بالرجوع إلى الدنيا، أو غير ذلك.
وقال بعض أهل العلم: (يستعتبون) أي يطلب إليهم أن يرضوا ربهم إما بالقول وإما بطلب الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا.
ولكن كون معنى (يستعتبون) أي: يطلب رضاهم، أرجح من جهة السياق من معنى: يطلب إليهم أن يرضوا ربهم؛ لأن قوله تعالى (ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون) يشتمل على أمرين اثنين:
الأول: (لا يؤذن للذين كفروا) أي بالاعتذار.
والثاني: (ولا هم يستعتبون) أي: ولا يطلب رضاهم.
ولكن لو قلنا: إن المعنى: لا يطلب إليهم أن يسترضوا ربهم، لكان إعادة لمعنى الجملة التي قبلها (لا يؤذن للذين كفروا) بالاعتذار، وعلى هذا يكون المعنى: لا يؤذن للكفار أن يعتذروا كي يرضوا ربهم، ولا يطلب إليهم أن يرضوا ربهم، وكلا الأمرين مفادهما الاعتذار.
أما لو كان المعنى (ولا هم يستعتبون) أي: ولا يطلب رضاهم، لكان السياق متوافقا، أي لا يسمح لهم بالاعتذار من جهتهم، ولا يرضون من جهة ربهم.
وأيضا من غير الصحيح أن يكون معنى (ولا هم يستعتبون): لا يطلب إليهم أن يسترضوا ربهم؛ لأن من لا يسمح له بالاعتذار لا يطلب منه الاعتذار، إذ لم يقبل اعتذارهم وقد كان من تلقاء أنفسهم، فكيف يطلب الاعتذار طلبا؟!!
- ولقائل أن يقول: كيف يرضيهم الله وهو سبحانه لم يسمح لهم بالاعتذار؟
أقول: عدم السماح بالاعتذار قد يوهم بعض الناس أنه بسبب أن الله راض عنهم ولا يريد اعتذارهم، ألا ترى - ولله المثل الأعلى - أن الابن قد يخطئ فيأتي ليعتذر لأبيه، فيشفق عليه الأب، فيقول له: لا أريد منك الاعتذار. وإنما كان ذلك شفقة من الأب ورحمة؛ لأنه سامح ابنه على ما كان منه، فحتى لا يظنن ظان أن عدم السماح للكفار إنما هو لرضى الله عنهم، جاء نفي إرضائهم أيضا.