(يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) (٥٠)
المعنى الإجمالي:
هذه الآية تكملة لمعنى الآية السابقة، والتي انتهت بقوله تعالى (والملائكة وهم لا يستكبرون).
وتبين هذه الآية أن الملائكة الكرام يخافون ربهم، وأنهم لا يعصون الله سبحانه وتعالى في شيء، بل يقومون بكل ما يأمرهم الله به.
المعنى التفصيلي:
- لم تعطف هذه الآية على الآية السابقة رغم الارتباط الوثيق بينهما، وذلك لأن بينهما كما يقوم علماء البلاغة: كمال اتصال، حيث إن هذه الآية بيان لما كان في الآية السابقة، وتأمل معي - حفظك الله - الارتباط الوثيق بين الآيتين (والملائكة وهم لا يستكبرون (٤٩) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون).
ولأجل كمال الاتصال بين الآيتين لم يقع العطف، وهذا ما يسمى في علم البلاغة بـ "الفصل".
- (يخافون ربهم) لماذا تخاف الملائكة وهم لا يعصون الله ما أمرهم؟
علينا أن نعرف أن الخوف أنواع، فهناك نوع من الخوف منشأه فعل الخطأ، وهناك نوع من الخوف منشأه توقع عمل الخطأ، وهناك نوع من الخوف منشأه الإجلال والتعظيم، وخوف الملائكة إنما هو خوف إجلال وتعظيم لله سبحانه وتعالى.
والخوف من الله سبحانه وتعالى نعمة عظيمة، ألا ترى أن الخوف من الله عد نعمة على الرجلين اللذين كانا من قوم موسى عليه السلام (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) (المائدة: ٢٣)
ومعنى (يخافون أنعم الله عليهما) أي أنعم الله عليهما بالخوف منه سبحانه وتعالى؛ لأن الخوف من الله - لنا البشر - صمام أمان وضابط خير يحجزنا عن الوقوع في المعاصي؛ ولذا فعلى المسلم أن يحرص على استشعار مراقبة ربه؛ لأن هذا الاستشعار يورث الخوف منه سبحانه، ومن الحكمة أن نعلم أن من خاف فاز.
- جاء التعبير بـ (ربهم) مع أن السياق سياق إخبار عن خوف الملائكة من الله سبحانه؛ وذلك لأن من معاني الرب الراعي لخلقه، ولذا فهم يخافون ربهم الذي خلقهم وأنعم عليهم ورعاهم.
- (من فوقهم) هل هي فوقية مكانة أم فوقية علو بذاته سبحانه عن خلقه؟
فوقية المكانة له سبحانه لا ينازع فيها أحد، وهي ظاهرة معلومة حتى لكفار مكة ومن كان مثلهم، ولكن يستنبط من الآية أيضا أن الله له الفوقية العليا، أي العلو المطلق فوق الخلق، بلا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل.
قال تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور (١٦) أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير (١٧)) (الملك)
وقال تعالى (ثم استوى على العرش) (الأعراف:٥٤) والاستواء إذا اقترن بحرف "على " دل على العلو، وذلك كقوله تعالى (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) (الزخرف: ١٣)
(وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين) (القصص: ٣٨)
فمن أين علم فرعون أن الله سبحانه وتعالى في السماء؟!
إنه علم ذلك من إخبار موسى عليه السلام بذلك؛ والدليل على هذا قوله تعالى حاكيا قول فرعون (وإني لأظنه من الكاذبين) أي فيما أخبر أن الله في السماء، وتأمل السياق جيدا، فسيتضح لك الأمر أكثر.
وكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات (البخاري:٦٨٧٠)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: أين الله؟
قالت: في السماء.
قال: من أنا؟
قالت: أنت رسول الله.
قال: أعتقها فإنها مؤمنة (مسلم:٨٣٦)
والأدلة على هذا كثيرة، بل قد صنف العلماء في هذا كتبا مستقلة علاوة على بحث المسألة في كتب العقيدة، أذكر من هذه الكتب:
- إثبات صفة العلو لابن قدامة المقدسي.
- العلو للعلي الغفار للذهبي
والكتب القديمة والحديثة من الكثرة بمكان، ويكفي ما ذكرت على سبيل المثال.
- حرف (من) في قوله تعالى (من فوقهم) يدل على فوقية الذات، وهذه الفوقية فوقية ليس كمثلها شيء، وهذا كقوله تعالى (فخر عليهم السقف من فوقهم) (النحل: ٢٦)، وكقوله تعالى (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين) (الأعراف: ٤١)، وكقوله تعالى (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون) (العنكبوت: ٥٥) وغير ذلك من الآيات.
- (ويفعلون ما يؤمرون) أي ما يأمرهم الله به، ولم يأت النص كما في قوله تعالى (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: ٦)؛ لأن قوله تعالى (يخافون ربهم من فوقهم) مقابل لقوله تعالى (لا يعصون الله ما أمرهم)؛ لأن خوف الملائكة من الله خوف عصمة، فهم لا يخطئون، وكذلك فإنه يلزم من فعلهم ما يؤمرون به أنهم لا يعصون الله.
ولكن ما هو الأبلغ في الطاعة (لا يعصون الله ما أمرهم) أم (ويفعلون ما يؤمرون)؟
الأبلغ في الطاعة هو (ويفعلون ما يؤمرون)؛ لأن العبد قد يؤمر بعمل معين، وقد لا يفعله ولا يكون من عاصيا؛ لأن تركه للفعل قد يكون بعذر، ولكن الملائكة يفعلون كل ما يأمرهم الله به ولا يقعون في العجز، وهذا أبلغ في الطاعة.
- وعند نهاية الآية هناك سجود تلاوة؛ ليكون المؤمن في زمرة الساجدين لله وحده.