(فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (٩٨)
المفردات:
- استعذ: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأصل الاستعاذة: طلب الالتجاء.
- الرجيم: المطرود من رحمة الله سبحانه وتعالى.
المعنى الإجمالي:
المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها أن قوله تعالى ( ... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (النحل: ٨٩) متصل المعنى مع قوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (النحل: ٩٨) وأن ما بينهما جمل معترضة.
ووجه المناسبة بين الآيتين هو أن الآية الأولى تخبر أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فتأمره الآية الثانية بالاستعاذة إذا قرأ هذا القرآن المنزل عليه.
المعنى التفصيلي:
- (فإذا) الفاء متفرعة عن نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ( ... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (النحل: ٨٩).
- (فإذا) جاء التعبير بـ "إذا" وليس "إن"؛ لأن الأصل في ما بعد "إذا" تحقق وقوعه، وفي ما بعد "إن" عدم تحقق وقوعه أو ندرته، ولا يخرج عن هذا إلا لنكتة بلاغية.
ولذا؛ فقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن - وكذا المسلمون في زمنه ومن بعده - حاصلة في كل وقت من آناء الليل والنهار؛ ولذا استعمل حرف "إذا".
- (قرأت) الخطاب موجه ابتداء للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته داخلة تحت هذا الأمر؛ لقوله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) (الأحزاب: ٢١) وجرى أمثال ذلك في قوله تعالى (قل هو الله أحد) (الإخلاص: ١)
- (قرأت) جاء الخطاب موجها إلى المسلمين من الآية (٩٠) إلى (٩٧)، بينما كان الخطاب في الآية (٨٩) والآية (٩٨) موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه المناسبة أن قوله تعالى ( ... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (النحل: ٨٩) متصل المعنى مع قوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (النحل: ٩٨) وأن ما بينهما جمل معترضة؛ وهذا هو سبب كون الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء.
ووجه المناسبة بين الآيتين (٨٩) و (٩٨) هو أن الآية الأولى تخبر أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فتأمره الآية الثانية بالاستعاذة إذا قرأ هذا القرآن المنزل عليه.
- (قرأت) أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن، ولهذا نظائر في القرآن: قال تعالى ( ... إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... ) (المائدة: ٦) أي: أردتم، وقوله تعالى ( ... إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ... ) (المجادلة: ٩) أي: إذا أردتم أن تتناجوا، وقوله تعالى ( ... وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ... ) (الأحزاب: ٥٣) أي إذا أردتم أن تسألوهن.
- ذهب بعض العلماء إلى أن الاستعاذة إنما تكون بعد القراءة، وهذا ضعيف لما ذكر آنفا، وأيضا: فإنما شرعت الاستعاذة في بداية قراءة القرآن؛ لدفع وسوسة الشيطان؛ لئلا يفسد الشيطان على القارئ تفكره وتدبره، وهذا إنما يتحقق إذا كانت الاستعاذة في بداية القراءة لا عند الانتهاء منها.
ولو قلنا في غير التنزيل "وإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم فاقرأ القرآن"، لكان الأمر بقراءة القرآن كلما استعاذ المسلم، وهذا غير مأمور به.
- (القرآن) هو كلام الله المنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - المعجز المتعبد بتلاوته، وهو أشهر من أن يعرف.
- (فاستعذ بالله) الفاء رابطة لجواب الشرط، والاستعاذة بالله: طلب الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
- (فاستعذ) وليس "قل أعوذ"؛ لأن الاستعاذة قول واعتقاد، وقوله (فاستعذ) يشمل القول والاعتقاد، بينما "قل أعوذ" ليس صريحا على اشتمال الاعتقاد صراحة (فاستعذ). فتأمل حفظك الله!
- (فاستعذ) وليس "فعذ"؛ لأن (فاستعذ) فيها معنى الطلب والسعي للحصول على العوذ؛ وهذا مستفاد من صيغة الاستفعال.
- (بالله) وليس "بالرحمن" أو "القهار"؛ لأننا عندما نستعيذ بـ "الرحمن" فإننا نستحضر معنى "الرحمة"، وإذا قلنا "القهار" فإننا نستحضر معنى "القهر"، وعندما نقول "الله" في سياق الاستعاذة فإننا نستحضر الاستعاذة بالإله الحق الواحد الأحد المتصف بكل صفات الكمال سبحانه وتعالى.
- (من الشيطان) (من) سببية، أي: التجئ بالله بسبب الشيطان الرجيم. والشيطان: إما أن يقصد به إبليس أو كل الشياطين، وعلى الأول فإن "ال" التعريف للعهد، وعلى الثاني للجنس. وكون الاستعاذة من كل الشياطين جميعا أبلغ من الاستعاذة من إبليس وحده؛ لأن الوسوسة من إبليس وجنوده جميعا، لا من إبليس وحده.
- وأصل (الشيطان) في اللغة إما أن يكون من "شطن" أو "شاط"، فإذا كان من "شطن" فهو يدل على البعد، والشيطان في ضوء هذا المعنى بعيد عن رحمة الله ومطرود، وإن كان من "شاط" فهو يدل على الهلاك بالاحتراق أو أي شيء آخر، والشيطان في ضوء هذا المعنى هالك.
- (الرجيم) على وزن فعيل بمعنى مرجوم على وزن مفعول، وفي اللغة نظائر لوزن "فعيل" بمعنى "مفعول": نقول: جريح وقتيل. بمعنى مجروح ومقتول.
- (الرجيم) هو: المطرود من رحمة الله تعالى، وهو من "الرجم" هو: الرمي بالحجارة، والرمي إما ان يكون للقتل كما في رجم الثيب الزاني، وإما ان يكون للطرد، أو لغير ذلك من المعاني، والتي تعرف بإطلاق النظر في المعاجم اللغوية.
- (الرجيم) نعت للشيطان، وذكر النعت في هذا السياق إنما هو لتأكيد ذم الشيطان، وللتنصيص على ضعفه وذله.
- لكن ما حكم الاستعاذة؟
ملخص ما ذهب إليه العلماء في شأن الاستعاذة:
ذهب الجمهور إلى أن حكم الاستعاذة هو: الندب، ومن العلماء من رأى الوجوب، كابن حزم وغيره ممن سبقه من التابعين أو لحقه، محتجين أن الأمر للوجوب، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، رغم أن الأمر للوجوب؛ لأنه صرفه صارف عن الوجوب إلى الندب، ودليل ذلك:
١ - لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسيء صلاته بالاستعاذة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
٢ - وأيضا فعن أنس قال بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (إنا أعطيناك الكوثر (١) فصل لربك وانحر (٢) إن شانئك هو الأبتر (٣)) (صحيح مسلم ج١/ص٣٠٠)
والشاهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن دون استعاذة.
وذهب بعض الجمهور - كالإمام مالك - إلى أن الاستعاذة لا تشرع في الصلاة، وهذا ضعيف؛ لثبوت الاستعاذة في الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي، ولذا فإن الاستعاذة مشروعة في الصلاة وخارجها.
وقال بعض من رأى أن الاستعاذة تشرع في الصلاة بأن الاستعاذة إنما تكون في الركعة الأولى، ومنهم من رأى أنها تكون في كل ركعة، علما بأنه لم يرد نص تفصيلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكون الاستعاذة في كل ركعة، وإنما استدلوا بعموم الأمر بالاستعاذة، وهذا العموم قد يفهم منه الجواز أما السنية فإنها أمر زائد على هذا، ولذا فإن السنة هي - والله أعلم - الاستعاذة في الركعة الأولى فقط.
- ولكن كيف يستعيذ القارئ؟
يستعيذ القارئ بقوله: أعوذ بالله من الشيطان. وهو بقوله هذا قد امتثل أمر الاستعاذة، ولكن قد ورد في السنة صيغة أخرى، وهي:
عن أبي سعيد قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل فكبر، قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه. ثم يستفتح صلاته. قال جعفر: وفسره مطر همزه: المؤتة، ونفثه: الشعر، ونفخه: الكبر. (سنن الدارمي ج١/ص٣١٠).
رواه (الدارمي: ١٢١١) واللفظ له، ورواه (أبو داود: ٦٥٨) و (الترمذي: ٢٥) و (ابن ماجه: ٧٩٩) وعند (أحمد) في غير موضع، مع اختلاف في بعض الألفاظ بين بعض الروايات، وكل الطرق لا تخلو من مقال، والحديث بمجموع طرقه حسن محتج به في إثبات هذه الصيغة من الاستعاذة.