فأدركني الخوف حتى انساب معه البول مني، فصاحت أفسدت المتاع، وكسرت عليه أواني ماء الورد. فقال اذهبي فمضوا حتى أخرجوني في خلوة وجعلت تطعمني وتسقيني حتى أتتني يوماً فعرضتني على السيدة فرضيتني لها، فاحتالت في خروجي وأمرتني بأن أتزين في أحسن زينة إلى باب الخلافة، ففعلت فأخذوني وأجلسوني في بيت وجعلوا يدخلون ويخرجون ويذكرون أن هذا وقت زفاف فلانة على البزاز ويذكرون صاحبتي ففرحت فرحاً أطار عقلي غير أني جعت جوعاً أحرق أحشائي، واستطعمت الخدام فلم يطعموني لأنهم لم يعرفوني حتى جاء خادم يعرفني فشكوت إليه الجوع فقدم لي ديك فأكلت وغسلت يدي غسلاً ظننت معه النقاء.
فلما خلوت بها رفستني وقالت عجبت كيف تفلح وأنت عامي سفلة، وهمت بالخروج فتعلقت بها وأخبرتها القصة، ثم قلت يلزمني صوم الأبد والحج ماشياً والطلاق والعتاق وصدقة مالي أن لا آكلها بعد اليوم إلا وأغسل يدي أربعين مرة فضحكت.
ودعت بطعام وشراب فأكلنا وشربنا، ولما مضى أسبوع أعطتني مالاً وأمرتني أن أشتري به داراً فاشتريت وتحولنا وقد صحبت نعمة عظيمة فأقمنا على أحسن حال.
وحكى التنوخي في المستجاد ونقله في نديم المسامرة، قال حمل المأمون من البصرة عشرة قد رموا بالزندقة، فلما اجتمعوا للنزول في السفينة، جاء طفيل فنزل معهم، وقال ما أظن هؤلاء اجتمعوا إلا لوليمه، فلما قيدوا ندم وعلم أن لا خلاص له. فحين ضربت أعناقهم وكان المأمون يعرفهم سأل عنه فقالوا لم نعرفه. فسأله فقال زوجتي طالق إن كنت أعرفهم أو أحوالهم، وإنما رأيتهم مجتمعين فظننت أنها وليمة.
فقال المأمون يبلغ التطفل بأصحابه إلى هذا، عزروه لئلا يعود إلى مثلها فقال ابن المهدي هبه لي يا أمير المؤمنين وأحدثك عن التطفل بحديث عجيب قال وهبته لك فحدثني قال يا أمير المؤمنين ركبت يوماً حتى مروت بموضع فشممت رائحة طعام وأبازير ما شممت مثلها قط، ورأيت معصماً من الشباك أخذ بقلبي أيضاً فاشتهيت أن آكل منه وأخذت في الحيلة إذ لم أكن أعرف أحداً من أهل المكان، فجئت إلى خياط قريب من المنزل فسألته عن اسم صاحب المكان فقال لي عن اسمه، وأنه تاجر يحب عشرة مثله، أيشرب الخمر؟ قال نعم. وأظن عنده اليوم جماعة من أصحابه.
فمكثت ساعة فإذا هم مقبلون، فقال لي هؤلاء أصحابه، فحركت دابتي حتى لحقت بهم فقلت قد أبطأتم وفلان ينتظركم. ثم دخلنا وهم يظنون أني من جماعة صاحب المنزل وهو يظن أني معهم فأكرمني كل منهم، وقدم الطعام فأكلنا فقلت في نفسي هذا الطعام قد قضيت منه شهوتي وبقي الكف والمعصم، ثم رفع الطعام ووضع الشراب وجاءت جارية ومعها عود فغنت:
توهمها طرفي فأصبح خدّها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحها كفي فآلم كفها ... فمن ضم كفي في أناملها عقر
فهيجت بلابلي وطربت لحسن شعرها ثم غنت أيضاً:
أشرت إليها هل عرفت مودتي ... فردّت بطرف العين أني على العهد
فحدث عن الاظهار عمداً لسرها ... وحادت عن الاظهار أيضاً على عمد
فصحت وطربت وطرب القوم حتى لم نملك نفوسنا ثم غنت أيضاً:
أليس عجيباً أن بيتاً يضمني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم
سوى أعين تبدي سرائر نفس ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكف تسلم
فحسدتها على الحذق والاصابة غير أني قلت بقي عليك شيء، فرمت العود وقالت متى كنتم تحضرون في مجالسكم البغضاء فتألموا مني فقلت قد فاتني ما أملت أن لم اتلاف قلوبهم. فقلت هل عندكم عود؟ قالوا نعم، وأحضروه فأحكمت إصلاحه وغنيت:
ما للمنازل لا تجيب حزينا ... أصممن أم قدم البلا فبلينا
لا بل بلين فهجن داء ساكناً ... لمتيم واثرن منه دفينا
راحوا العشية روحة مذكورة ... إن متن متنا أو حيين حيينا
فقبلت عند ذلك يدي وقالت معذرة إليك، وزاد القوم في إكرامي، فلما رأيت مزيد بسطهم اندفعت أيضاً فغنيت:
أفي العدل أن تمسين لا تذكرينني ... وقد سجمت عيناي من ذكراك الدما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما