وعن نفول بن مساحق بن عبد الله بن المسور بن مخرمة وكان والياً على الصدقات من قبل مروان أو عبد الملك وله صحبة عند الذهبي. قال قدمت على بني عامر لأخذ أموال الصدقة فرأيت شخصاً عارياً يلعب بالتراب فأمرت له بثوب فقيل لي لو كان يلبس لكان في مال أبيه كفاية فإنه سيد الحي، ولكنه تولع بحب امرأة فصيرته هكذا قال فقمت إليه وكلمته فلم يعقل فقيل لي إن أردت أن يفهم ما تقول فاذكر له ليلى. فقلت أتحب ليلى قال نعم فقلت له أتريد أن أزوجك بها قال أو ممكن ذلك قلت نعم فقل يا له من جميل لو أن أهل الأرض شكروك معي لم يفوا فعند ذلك قام فلبس ثيابه وأقام معه بوعد منه إلى يوم مجتمع لهم فهم ليأخذه فأخبروه باهدار السلطان دمه فصرفه وقيل هموا بقتاله فصرفه إنما كان خوف الفتنة فقال المجنون له والله إنك لم تف بالوعد ثم مزق ما عليه وانصرف. وفي الكتاب ما يشعر بأن القصة مع محمد بن نوفل وليس كذلك لما ستعرفه من أن نوفلاً لم يزل من ذلك اليوم متطلباً لأخبار المجنون جامعاً لأشعاره وأنه قدم سنة من السنين يسأله عنه فقالوا لم نعرف له خبراً فركب في طلبه حتى لاح له وراء اراكة بين قطيع من الغزلان وقد غطاه شعره فصعد نوفل الشجرة مستخفياً وشربت الظباء وانصرفت فوقف المجنون يرعى هذا ما في الأصل وفي نزهة المشتاق أنه انصرف معهم ولم يمكنه الاجتماع به فرجع متأسفاً وشكا ما به إلى شيخ كبير في بني سعد فقال له الشيخ إن للمجنون داية يألفها وأنها تحمل له الطعام والخبز أحياناً فيأكل منها ولو صحبتها لأمكن أن تظفر به ففعل، فهرب المجنون منهما فرجع وأخبر الشيخ فقال له الشيخ قد قرأت في سالف الأخبار أن سلطاناً قال لوزيره أخبرني عن أعظم رائحة وأقوى لذة وأشد حافر على الأرض وقد أمهلتك ثلاثاً فإن لم تجب جللتك بالسيف.
فمضى مهموماً وكان له ابنة قد اتخذت قصراً مفتوحاً إلى الأربع جهات على قارعة الطريق للنزهة فلما رأت ما بأبيها استعطفته حتى أخبرها فاستسهلت الأمر وقالت له إذا عدت إليه من الغد فأخبره أن أقوى رائحة رائحة الخبز وأعظم الأشياء لذة الجماع وأشد حافر على الأرض البغال فلما أعلمه قال له أخبرني من أين لك ذلك فصدقه الأمر فاستحضر البنت وقال لها لئن لم تخبريني عن تعليل ذلك وإلا ضربت عنقك فإنك بكر لم تعلمي أحوال النساء ولا لذة الجماع فقالت أيد الله الملك إن قصري منفتح للأهوية فلم أجد من لدن قطنت به رائحة يتكيف بها الهواء أعظم من الخبز ولم يتحرك جدار القصر من شيء غير البغال وأما الجماع فإنني أخذته من شدة ألم الوضع وما شاهدت من مقاساة النساء فيه فلو لم يكن الجماع أعظم لذة ما عدن إليه والرأي عندي أن تصنع خبزاً وتجعله في طابق يضم بخاره وتفتحه حيث يشمه فإنه يقف لبعد عهده به فتذكر له ليلى فيزداد أنساً. قال الرجل فمضيت وعملت برأي الشيخ وطيبت الخبز بالأفاويه حتى إذا أقبل ولمحته من خلال الأواكة كشفت الخبز وصعدت لتشرب الظباء فشربن وسرن ووقف يشم الرائحة فأنشدته من الشجرة.
أتبكي على ليلى ونفسك باعدت ... مزارك من ليلى وشعباً كما معا
فاندفع يقول:
فما حسن أن يأتي الأمر طائعاً ... وتجزع أن داعي الصبابة أجزعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... على الجهل بعد الحلم اسبلتا معا
واذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن يصدعا
فليست عشيات الحمى برواجع ... إليك ولكن خل عينيك تدمعا
معي كل عز قد عصى عاذلاته ... بوصل الغواني من لدن أن ترعرعا
إذا راح يمشي في الرداءين أسرعت ... إليه العيون الناظرات التطلعا
ثم سقط مغشياً عليه فتمثلت بقوله:
يا دار ليلى بسقط الحي قد درست ... إلا الثمام وإلا موقد النار
أبلى عظامك بعد اللحم ذكركها ... كما ينحت قدح الشوحط الباري
ما تفتئوا الدهر من ليلى تموت كذا ... في موقف وقفته أو على داري