عمل ترياقا مُخْتَصرا تُوجد أدويته فِي كل مَكَان
وَنوى أَنه لَا يقْصد بِهِ قربا من ملك وَلَا طلب مَال وَلَا جاها فِي الدُّنْيَا وَلَا يقْصد بِهِ إِلَّا التَّقَرُّب إِلَى الله بنفع خلقه أَجْمَعِينَ والشفقة على سَائِر الْعَالمين وبذله للمرضى فَكَانَ يخلص بِهِ المفلوجين وَيقوم بِهِ الْأَيْدِي المتقوسة لوقته وساعته بِحَيْثُ كَانَ ينشيء فِي العصب زِيَادَة فِي الْحَرَارَة الغريزية وتقوية وإذابة البلغم الَّذِي فِيهِ فيجد الْمَرِيض الرَّاحَة بِهِ لوقته ويسكن وجع القولنج من بعد الاستفراغ لوقته
وَأَنه مر على بواب الْبَاب الَّذِي بَين السورين بِالْقَاهِرَةِ المحروسة وَهُوَ رجل يعرف بعلي وَهُوَ ملقى على ظَهره لَا يقدر أَن ينْتَصب من جنب إِلَى جنب فَشَكا إِلَيْهِ حَاله فَأعْطَاهُ مِنْهُ شربة وطلع القلعة وباشر المرضى وَعَاد فِي السَّاعَة الثَّالِثَة من النَّهَار فَقَامَ المفلوج يعدو فِي ركابه يَدْعُو لَهُ
فَقَالَ لَهُ اقعد فَقَالَ يَا مَوْلَانَا قد شبعت قعُودا خليني أتملى بنفسي
وَمن حكاياته أَن الْملك الْكَامِل كَانَ عِنْده مُؤذن يعرف بأمين الدّين جَعْفَر حصل لَهُ حَصَاة سدت مجْرى الْبَوْل وقاسى من ذَلِك شدَّة أشرف فِيهَا على الْمَوْت
فَكتب إِلَى الْملك الْكَامِل وأعلمه بِحَالهِ وَطلب مِنْهُ دستورا يمشي إِلَى بَيته يتداوى فَلَمَّا حضر إِلَى بَيته أحضر أطباء الْعَصْر فوصف كل مِنْهُم لَهُ مَا وصف فَلم ينجع
فاستدعى الْحَكِيم أَبَا حليقة الْمَذْكُور فَأعْطَاهُ شربة من ذَلِك الترياق
فبمقدار مَا وصلت إِلَى معدته نفذت قوتها إِلَى مَوضِع الْحَصَاة ففتتتها وَخرجت من الأراقة وَهِي مصبوغة بالدواء وخلص لوقته وَخرج لخدمة سُلْطَانه وَأذن أَذَان الظّهْر
وَكَانَ السُّلْطَان يَوْمئِذٍ مخيما على جيزة الْقَاهِرَة فَلَمَّا سمع صَوته أَمر بإحضاره إِلَيْهِ فَلَمَّا حضر قَالَ لَهُ مَا ورقتك بالْأَمْس وصلتنا وَأَنت تَقول أَنَّك كنت على الْمَوْت فَأَخْبرنِي أَمرك
فَقَالَ يَا مَوْلَانَا الْأَمر كَانَ كَذَلِك لَوْلَا لَحِقَنِي مَمْلُوك مَوْلَانَا الْحَكِيم أَبُو حليقة فَأَعْطَانِي ترياقا خلصت بِهِ للْوَقْت وَالْحَال
وَاتفقَ أَن فِي ذَلِك الْيَوْم جلس إِنْسَان ليريق مَاء فنهشته أَفْعَى فِي ذكره فَقتلته فَلَمَّا سمع السُّلْطَان بِخَبَرِهِ رق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ رؤوفا بالخلق
ثمَّ دخل إِلَى قلعة الْقَاهِرَة بَات بهَا وَأصْبح من باكر والحكيم الْمَذْكُور قَاعد فِي الْخدمَة عِنْد زِمَام الدَّار على الْبَاب
وَالسُّلْطَان قد خرج فَوقف واستدعاه إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا حَكِيم أيش هَذَا الترياق الَّذِي عملته واشتهر نَفعه للنَّاس هَذِه الشُّهْرَة الْعَظِيمَة وَلم تعلمني بِهِ قطّ فَقَالَ يامولانا الْمَمْلُوك لَا يعْمل شَيْئا إِلَّا لمولانا وَمَا سَبَب تَأْخِير إِعْلَامه إِلَّا ليجربه الْمَمْلُوك لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أنشأه فَإِذا صحت لَهُ تجربته ذكره لمولانا على ثِقَة مِنْهُ وَإِذ قد صَحَّ هَذَا لمولانا فقد حصل الْمَقْصُود
فَقَالَ لَهُ تمْضِي وتحضر لي كلما عنْدك مِنْهُ
وَترك خَادِمًا قَاعِدا على الْبَاب فِي انْتِظَاره وَرجع إِلَى دَاره كَأَنَّهُ لم يطلع القلعة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَلَا خرج من الدَّار فِي تِلْكَ السَّاعَة إِلَّا لهَذَا المهم خَاصَّة
فَمضى الْحَكِيم الْمَذْكُور إِلَى دَاره فَوجدَ عِنْده من ذَلِك الترياق شَيْئا يَسِيرا لِأَن الْخلق كَانَت تغنيه مِمَّا تطلبه مِنْهُ فَمضى إِلَى أصدقائه الَّذين كَانَ أهْدى لَهُم مِنْهُ شَيْئا وَجمع مِنْهُ مِقْدَار أحد عشر درهما وَوَعدهمْ بِأَنَّهُ يعطيهم عوضا عَنهُ أضعافه فَجعله فِي برنية فضَّة صَغِيرَة وَكتب عَلَيْهِ مَنَافِعه وَمِقْدَار الشربة مِنْهُ وَحملهَا إِلَى الْخَادِم الْمَذْكُور الْقَاعِد فِي انْتِظَاره فحملها إِلَى السُّلْطَان وَلم يزل حَافِظًا لَهَا فَلَمَّا آلمته أَسْنَانه دلكه عَلَيْهَا فَحصل لَهُ مِنْهُ من الرَّاحَة مَا ذكر