قَالَ وَيَنْبَغِي أَن تكون سيرتك سيرة الصَّدْر الأول فاقرأ سيرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتتبع أَفعاله وأحواله واقتف آثاره وتشبه بِهِ مَا أمكنك وبقدر طاقتك
وَإِذا وقفت على سيرته فِي مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته وتمرضه وتطببه وتمتعه وتطيبه ومعاملته مَعَ ربه وَمَعَ أَزوَاجه وَأَصْحَابه وأعدائه وَفعلت الْيَسِير من ذَلِك فَأَنت السعيد كل السعيد
قَالَ وَيَنْبَغِي أَن تكْثر إيهامك لنَفسك وَلَا تحسن الظَّن بهَا وَتعرض خواطرك على الْعلمَاء وعَلى تصانيفهم وتتثبت وَلَا تعجل وَلَا تعجب فَمَعَ الْعجب العثار وَمَعَ الاستبداد الزلل
وَمن لم يعرق جَبينه إِلَى أَبْوَاب الْعلمَاء لم يعرق فِي الْفَضِيلَة وَمن لم يخجلوه لم يبجله النَّاس وَمن لم يبكتوه لم يسد وَمن لم يحْتَمل ألم التَّعَلُّم لم يذقْ لَذَّة الْعلم وَمن لم يكدح لم يفلح
وَإِذا خلوت من التَّعَلُّم والتفكر فحرك لسَانك بِذكر الله وبتسابيحه وخاصة عِنْد النّوم فيتشربه لبك ويتعجن فِي خيالك وَتكلم بِهِ فِي مَنَامك
وَإِذا حدث لَك فَرح وسرور بِبَعْض أُمُور الدُّنْيَا فاذكر الْمَوْت وَسُرْعَة الزَّوَال وأصناف المنغصات وَإِذا أحزنك أَمر فَاسْتَرْجع وَإِذا اعترتك غَفلَة فَاسْتَغْفر وَاجعَل الْمَوْت نصب عَيْنك وَالْعلم والتقى زادك فِي الْآخِرَة
وَإِذا أردْت أَن تَعْصِي الله فاطلب مَكَانا لَا يراك فِيهِ
وَاعْلَم أَن النَّاس عُيُون الله على العَبْد يُرِيهم خَيره وَإِن أخفاه وشره وَأَن ستره فباطنه مَكْشُوف لله وَالله يكشفه لِعِبَادِهِ
فَعَلَيْك أَن تجْعَل باطنك خيرا من ظاهرك وسرك أصبح من علانيتك
وَلَا تتألم إِذا أَعرَضت عَنْك الدُّنْيَا فَلَو عرضت لَك لشغلتك عَن كسب الْفَضَائِل
وقلما يتعمق فِي الْعلم ذُو الثروة إِلَّا أَن يكون شرِيف الهمة جدا أَو أَن يثري بعد تَحْصِيل الْعلم
وَإِنِّي لَا أَقُول أَن الدُّنْيَا تعرض عَن طَالب الْعلم بل هُوَ الَّذِي يعرض عَنْهَا لِأَن همته مصروفة إِلَى الْعلم فَلَا يبْقى لَهُ الْتِفَات إِلَى الدُّنْيَا وَالدُّنْيَا إِنَّمَا تحصل بحرص وفكر فِي وجوهها فَإِذا غفل عَن أَسبَابهَا لم تأته وَأَيْضًا فَإِن طَالب الْعلم تشرف نَفسه عَن الصَّنَائِع الرذلة والمكاسب الدنية وَعَن أَصْنَاف التِّجَارَات وَعَن التذلل لأرباب الدُّنْيَا وَالْوُقُوف على أَبْوَابهم
ولبعض إخْوَانِي بَيت شعر
(من جد فِي طلب الْعُلُوم أفاته ... شرف الْعُلُوم دناءة التَّحْصِيل) الْكَامِل
وَجَمِيع طرق مكاسب الدُّنْيَا تحْتَاج إِلَى فرَاغ لَهُ وحذق فِيهَا وَصرف الزَّمَان إِلَيْهَا
والمشتغل بِالْعلمِ لَا يَسعهُ شَيْء من ذَلِك وَإِنَّمَا ينْتَظر أَن تَأتيه الدُّنْيَا بِلَا سَبَب وتطلبه من غير أَن يطْلبهَا طلب مثلهَا وَهَذَا ظلم مِنْهُ وعدوان
وَلَكِن إِذا تمكن الرجل فِي الْعلم وَشهر بِهِ خطب من كل جِهَة وَعرضت عَلَيْهِ المناصب وجاءته الدُّنْيَا صاغرة وَأَخذهَا وَمَاء وَجهه موفورا وَعرضه وَدينه مصون
وَاعْلَم أَن للْعلم عقبَة وَعرفا يُنَادي على صَاحبه ونورا وضياء يشرق عَلَيْهِ وَيدل عَلَيْهِ كتاجر الْمسك لَا يخفى مَكَانَهُ وَلَا تجْهَل بضاعته
وَكَمن يمشي بمشعل فِي ليل مدلهم
والعالم مَعَ هَذَا مَحْبُوب أَيْنَمَا كَانَ وكيفما كَانَ لَا يجد إِلَّا من يمِيل إِلَيْهِ ويؤثر قربه ويأنس بِهِ ويرتاح بمداناته وَاعْلَم أَن الْعُلُوم تغور ثمَّ تَفُور فِي زمَان بِمَنْزِلَة النَّبَات أَو عُيُون الْمِيَاه وتنتقل من قوم إِلَى قوم وَمن صقع إِلَى صقع