وَيَعْنِي بِهِ النُّسْخَة الَّتِي عِنْده
وَذَلِكَ لِكَثْرَة مطالعته إِيَّاهَا وأنسه بهَا
وَمِمَّا شاهدته فِي ذَلِك من أمره أنني كنت أَقرَأ عَلَيْهِ فِي أَوَائِل اشتغالي بصناعة الطِّبّ وَنحن فِي المعسكر المعظمي وَكَانَ أبي أَيْضا فِي ذَلِك الْوَقْت فِي خدمَة الْملك الْمُعظم رَحمَه الله شَيْئا من كَلَام أبقراط حفظا واستشراحا
فَكنت أرى من حسن تَأتيه فِي الشَّرْح وَشدَّة اسْتِقْصَائِهِ للمعاني بِأَحْسَن عبارَة وأوجزها وأتمها معنى مَا لَا يَجْسُر أحد على مثل ذَلِك وَلَا يقدر عَلَيْهِ
ثمَّ يذكر خُلَاصَة مَا ذكره وَحَاصِل مَا قَالَه حَتَّى لَا يبْقى فِي كَلَام بقراط مَوضِع إِلَّا وَقد شَرحه شرحا لَا مزِيد عَلَيْهِ فِي الْجَوْدَة
ثمَّ إِنَّه يُورد نَص مَا قَالَه جالينوس فِي شَرحه لذَلِك الْفَصْل على التوالي إِلَى آخر قَوْله
وَلَقَد كنت أراجع شرح جالينوس فِي ذَلِك فأجده قد حكى جملَة مَا قَالَه جالينوس بأسره فِي ذَلِك الْمَعْنى وَرُبمَا أَلْفَاظ كَثِيرَة من أَلْفَاظ جالينوس يوردها بِأَعْيَانِهَا من غير أَن يزِيد فِيهَا وَلَا ينقص
وَهَذَا شَيْء تفرد بِهِ فِي زَمَانه
وَكَانَ فِي أَوْقَات كَثِيرَة لما أَقَامَ بِدِمَشْق يجْتَمع هُوَ وَالشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ فِي الْموضع الَّذِي يجلس فِيهِ الْأَطِبَّاء عِنْد دَار السُّلْطَان ويتباحثان فِي أَشْيَاء من الطِّبّ
فَكَانَ الشَّيْخ مهذب الدّين أفْصح عبارَة وَأقوى براعة وَأحسن بحثا
وَكَانَ الْحَكِيم يَعْقُوب أَكثر سكينَة وَأبين قولا وأوسع نقلا
لِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَة الترجمان المستحضر لما ذكره جالينوس فِي سَائِر كتبه من صناعَة الطِّبّ
فَأَما معالجات الْحَكِيم يَعْقُوب فَإِنَّهَا كَانَت فِي الْغَايَة من الْجَوْدَة والنجح وَذَلِكَ أَنه كَانَ يتَحَقَّق معرفَة الْمَرَض أَولا تَحْقِيقا لَا مزِيد عَلَيْهِ ثمَّ يشرع فِي مداواته بالقوانين الَّتِي ذكرهَا جالينوس مَعَ تصرفه هُوَ فِيمَا يَسْتَعْمِلهُ فِي الْوَقْت الْحَاضِر
وَكَانَ شَدِيد الْبَحْث واستقراء الْأَعْرَاض بِحَيْثُ أَنه كَانَ إِذا افْتقدَ مَرِيضا لَا يزَال يستقصي مِنْهُ عرضا عرضا وَمَا يشكوه مِمَّا يجده من مَرضه حَالا حَالا إِلَى أَن لَا يتْرك عرضا يسْتَدلّ بِهِ على تَحْقِيق الْمَرَض إِلَّا ويعتبره فَكَانَت أبدا معالجاته لَا مزِيد عَلَيْهَا فِي الْجَوْدَة
وَكَانَ الْملك الْمُعظم يشْكر مِنْهُ هَذِه الْحَالة ويصفه وَيَقُول لَو لم يكن فِي الْحَكِيم يَعْقُوب إِلَّا شدَّة اسْتِقْصَائِهِ فِي تَحْقِيق الْأَمْرَاض حَتَّى يعالجها على الصَّوَاب وَلَا يشْتَبه عَلَيْهِ شَيْء من أمرهَا
وَكَانَ الْحَكِيم يَعْقُوب أَيْضا متقنا للسان الرُّومِي خَبِيرا بلغته وَنقل مَعْنَاهُ إِلَى الْعَرَبِيّ وَكَانَ عِنْده بعض كتب جالينوس مَكْتُوبَة بالرومي مثل حِيلَة الْبُرْء والعلل والأعراض وَغير ذَلِك
وَكَانَ أَيْضا ملازما لقراءتها والاشتغال بهَا وَكَانَ مولده بالقدس وَأقَام بهَا سِنِين كَثِيرَة
ولازم بهَا رجلا فَاضلا فيلسوفا رَاهِبًا فِي دير السيق كَانَ خَبِيرا بِالْعلمِ الطبيعي متقنا للهندسة وَعلم الْحساب قَوِيا فِي علم أَحْكَام النُّجُوم والإطلاع عَلَيْهَا
وَكَانَت لَهُ أَحْكَام صَحِيحَة وإنذارات عَجِيبَة
وَأَخْبرنِي الْحَكِيم يَعْقُوب عَنهُ مَعْرفَته للحكمة وَحسن فطرته وفطنته شَيْئا كثيرا
وَاجْتمعَ أَيْضا الْحَكِيم يَعْقُوب فِي الْقُدس بالشيخ أبي مَنْصُور النَّصْرَانِي الطَّبِيب واشتغل عَلَيْهِ وباشر مَعَه أَعمال صناعَة الطِّبّ وانتفع بِهِ
وَكَانَ الْحَكِيم يَعْقُوب من أتم النَّاس عقلا وأسدهم رَأيا وَأَكْثَرهم سكينَة
وَلما خدم الْملك الْمُعظم عِيسَى بن أبي بكر بن أَيُّوب وَصَارَ مَعَه فِي الصُّحْبَة كَانَ حسن الِاعْتِقَاد فِيهِ حَتَّى أَنه كَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ فِي كثير من الآراء الطبية وَغَيرهَا فينتفع بهَا ويحمد عواقبها
وَقصد الْملك الْمُعظم أَن يوليه بعض