والمطالعة يسهر أَكثر ليله فِي الِاشْتِغَال
وَكَانَ أَيْضا فِي ذَلِك الزَّمَان يجْتَمع بالشيخ سيف الدّين عَليّ بن أبي عَليّ الْآمِدِيّ وَكَانَ يعرفهُ قَدِيما فلازمه فِي الِاشْتِغَال عَلَيْهِ بالعلوم الْحكمِيَّة وَحفظ شَيْئا من كتبه وَحصل مُعظم مصنفاته ليشتغل بهَا مثل كتاب دقائق الْحَقَائِق وَكتاب رموز الْكُنُوز وَكتاب كشف التمويهات فِي شرح التَّنْبِيهَات وَكتاب أبكار الأفكار وَغير ذَلِك من مصنفات سيف الدّين
ثمَّ بعد ذَلِك أَيْضا نظر فِي علم الْهَيْئَة والنجوم واشتغل بهَا على أبي الْفضل الإسرائيلي المنجم واقتنى من آلَات النّحاس الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا فِي هَذَا الْفَنّ مَا لم يكن عِنْد غَيره وَمن الْكتب شَيْئا كثيرا جدا
وسمعته يَحْكِي أَن عِنْده سِتّ عشرَة رِسَالَة غَرِيبَة من الإصطرلاب لجَماعَة من المصنفين
وَفِي أثْنَاء ذَلِك طلبه الْملك الْأَشْرَف أَبُو الْفَتْح مُوسَى ابْن الْملك الْعَادِل وَهُوَ بالشرق فَتوجه إِلَيْهِ وَذَلِكَ فِي شهر ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة
وَقَالَ لي أَنه خرج مِنْهُ فِي هَذِه السفرة لما عزم على الْحَرَكَة من شِرَاء بغلات وخيم وآلات لَا بُد مِنْهَا للسَّفر عشرُون ألف دِرْهَم
وَلما وصل ذَلِك إِلَى الْملك الْأَشْرَف أكْرمه وَأحسن إِلَيْهِ وَأطلق لَهُ إقطاعا فِي الشرق يغل لَهُ فِي كل سنة ألف وَخَمْسمِائة دِينَار فَبَقيَ مَعَه مُدَّة ثمَّ عرض لَهُ ثقل فِي لِسَانه واسترخاء فَبَقيَ لَا يسترسل فِي الْكَلَام وَوصل إِلَى دمشق لما ملكهَا الْملك الْأَشْرَف فِي سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة وَهُوَ مَعَه فولاه رياسة الطِّبّ
وَبَقِي كَذَلِك مديدة وَجعل لَهُ مَجْلِسا لتدريس صناعَة الطِّبّ
ثمَّ زَاد بِهِ ثقل لِسَانه حَتَّى بَقِي إِذا حاول الْكَلَام لَا يفهم ذَلِك مِنْهُ إِلَّا بعسر
وَكَانَت الْجَمَاعَة تبحث قدامه فَإِذا استعصى مِنْهُ معنى يُجيب عَنهُ بأيسر لفظ يدل على كثير من الْمَعْنى
وَفِي أَوْقَات يعسر عَلَيْهِ الْكَلَام فيكتبه فِي لوح وتنظره الْجَمَاعَة
ثمَّ اجْتهد فِي مداواة نَفسه واستفرغ بدنه بعدة أدوية مسهلة وَكَانَ يتَنَاوَل كثيرا من الْأَدْوِيَة والمعاجين الحارة ويغتذي بِمِثْلِهَا فعرضت لَهُ حمى وتزايدت بِهِ حَتَّى ضعفت قوته وتوالت عَلَيْهِ أمراض كَثِيرَة
وَلما جَاءَ الْأَجَل بَطل الْعَمَل
(وَإِذا الْمنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تَمِيمَة لَا تَنْفَع)
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي اللَّيْلَة الَّتِي صبيحتها يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر صفر سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة وَدفن بجبل قاسيون وَلم يخلف ولدا
وَلما كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة وَذَلِكَ قبل سفر الشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ عِنْد الْملك الْأَشْرَف وخدمته لَهُ وقف دَاره وَهِي بِدِمَشْق عِنْد الصاغة العتيقة شَرْقي سوق المناخليين وَجعلهَا مدرسة يدرس فِيهَا من بعده صناعَة الطِّبّ ووقف لَهَا ضيَاعًا وعدة أَمَاكِن يستغل مَا ينْصَرف فِي مصالحها وَفِي جامكية الْمدرس وجامكية المشتغلين بهَا
ووصى أَن يكون الْمدرس فِيهَا الْحَكِيم شرف الدّين عَليّ بن الرَّحبِي وابتدأ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِه الْمدرسَة يَوْم الْجُمُعَة صَلَاة الْعَصْر ثامن ربيع الأول سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة
وَلما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة حضر الْحَكِيم سعد الدّين إِبْرَاهِيم بن الْحَكِيم موفق الدّين عبد الْعَزِيز وَالْقَاضِي شمس الدّين الخوئي وَالْقَاضِي جمال الدّين