وهو صنفان: صنف يشبه القراد لكن أرجله خفية، ورطوبته ظاهرة يسمى بالعراق والشام الجرجس، وبمصر البق، ويشم رائحة الإنسان وتعلق به كقراد الجمل والكلب وله لسع شديد جدا، ويقال أنه يتولد من النفس الحار، ولشدة رغبته في الإنسان لا يتمالك إذا شم رائحته، فإن في السقف رمى بنفسه عليه فلا يخطئه، والصنف الآخر طائر، ويسميه العراقيون البق، ويسميه المصريون الناموس، والماء الراكد يولده فإن صار الماء رقراقا استحال دعاميصا، والدعاميص تستحيل فراشا، والبعوض في خلقة الفيل إلا أنه أكبر أعضاء منه، فإن للفيل أربعة أرجل وخرطوما وذنبا، وله مع هذه الأعضاء يدان زائدتان، وأربعة أجنحة وخرطوم الفيل مصمت، وخرطومه أجوف نافذ الخرق، فإذا طعن به جلد الإنسان استقى منه الدم، وقذف به إلى جوفه، فهو له كالبلعوم والحلقوم، ومما ألهم أنه إذا جلس على عضو من أعضاء الإنسان لا يزال يتوخى بخرطومه السان التي يخرج منها النفس والعرق، لأنها أرق بشرة جلد الإنسان، وإذا وجدها وضع خرطومه فيها وهذا الخرطوم على هيئة خرطوم الفيل فيه غضون كبيرة يجمعه بها ويحده إذا أحب بتدريج في خلقه من الدقة إلى الغلظ على تناسب مخصوص، وله رأس هذا الخرطوم سم يستعين به على تليين الجلد الذي يقع عليه، وعلى هضم ما يبتلعه من دم وفيه من الشره أنه يمتص من دم الإنسان إلى أن ينشق ويموت أو يمص إلى أن يعجز من الطيران فيكون ذلك سبب قتله، وله في خرطومه من القوة بحيث أنه يغمسه في جلد الفيل، والجاموس كما يغمس في الإنسان إصبعه في الثريد. ومن طرائف أمر البعوض، أنه ربما قتل البعير وغيره من ذوات الأربع فيبقى طريحا في الصحراء فتجتمع حوله من السباع والطير التي تأكل الجيف فمتى أكل منه شيء منها مات لوقته في موضعه، وكان بعض جبابرة الولاة بالعراق يقتل بالبعوض بأن يأخذ من يريد قتله تعذيبا فيخرجه مجردا إلى بعض الآجام التي بالبطائح فيتركه بها مكتوفا فيقتله في أرجى وقت وأسرعه، ولهذا قال الجاحظ وبعوض البطائح كجرارات الأهواز، وعقارب شهرزور، فربما ظفر بالسكران النائم فلا يبقى فيه إلا عظما عارية وهي على صغر جرمها قد أودع الله في مقدم دماغها قوة الحفظ، وفي وسطه قوة الفكر، وفي مؤخره قوة الذكر، وخلق لها حاسة البصر، وحاسة اللمس وحاسة السمع، وحاسة الشم، وخلق لها منفذا للغذاء ومخرجا للفضلة، ومتى كان الأمر كذلك فقد خلق لها جوفا وأمعاء وعروقا وعظاما، فسبحان من قدر فهدى، ولم يخلق شيئا من المخلوقات سدى وقال الزمخشري في تفسيره، وفي خلق الله تعالى أصغر من البعوضة وأقل الدرجات فربما تجد في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها البصر الحاد إلا بحركتها، فإذا سكنت فالسكون يواريها، ثم إذا لوحت بها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها فسبحان من يدرك صورة تلك ويرى أعضائها الظاهرة والباطنة وتفاصيل خلقها، ويبصر بصرها ويطلع على خبرها، وقال بعض المخلصين في دعائه والمستغيث بندائه:
يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان مني في الزمان الأول
[الوصف والتشبيه]
قال بعض الظرفاء:
بعوض جعلن دمي قهوة ... وغنينني بضروب الأغاني
كأن عروقي أوتارهن ... وجسمي الرباب وهن القيان
وقال آخر يصف بعوضة:
مثل الشفاه دائم طنينها ... ركب في خرطومها سكينها
وقال أبو إسحاق الصابي:
وليلة لم أذق من حرها وسنا ... كأن في جوفها النيران تشتعل
أحاط بي عسكر للبق ذه أجب ... ما فيه إلا شجاع فاتك بطل
من كل شائكة الخرطوم طاعنة ... لا يمنع الحجب مسراها ولا الكلل
كانوا علينا وحر الصيف ينضجا ... حتى إذا نضجت أجسادنا أكلوا