أمهاتها وآباؤها من ذوات الماء، ثم قال: وكيف دارت الأمور، فإن الحيات في الأصل مائية لأنها مما يعيش في الهواء، وفي الماء كما تعيش في السباسب الجرد، والصخور الصم، وكما تعيش في الرياض والأدغال، وكذا تعيش في الجبال والرمال.
[الوصف والتشبيه]
أحسن ما وقع لي من ذلك قول بعض كتاب الأندلس من رسالة: تبرق بريق الصوارم المسلولة، وتلمع لمعان الذوابل المصقولة، مدنرة الأصلاب، مفصصة البطون، مذهبة الأفواه، مجزعة العيون، تصل صليل الرقوق في اضطرابها، وتخطر خطرات العجول بأذنابها.
وقال عطاء بن يعقوب يصف حوتا من رسالة يستدعي بها صديقا، قد أهدى لنا صديق سمكة قد لبست من جلدها شبكة تشبه حملا شكلا وقدا، أو جرابا قد أملئ زبدا، كأنها أرادت أن تحارب السماك، أو حوت الأفلاك، فلبست من جلدها جوشنا مزردا وسلت من ذنبها سيفا مجردا. وقال ابن الرومي يخاطب رئيسا ويستدعي منها سمكا:
يا من أضاء شهاب غرته ... فجلا ظلام الليل ذي الحلك
عسرت علينا دعوة السمك ... أنى وجودك ضامن الدرك
إعلم وقيت الجهل أنك في ... قصر تلته مطارح الشبك
وبنات دجلة في فنائكم ... مأسورة في كل معترك
بيض كأمثال السبائك بل ... مشحونة بالشحم كالعكك
حسنت مناظرها وساعدها ... طعم كحل معاقد التكك
والناقة الغرثاء يرقبها ... قلق الخواطر متعب الملك
فليصطد الصياد حاجتنا ... يصطد موداتنا بلا شرك
فثناء مثلي غير مطرح ... وسؤال مثلك غير مترك
ولآخر:
بأحسنهن كاملها ... بيضاء قصف
ومرهفات قد ... طواهن هيف
نوات أرواح ... خفاف تستخف
فهي كمثل الطير ... في الماء تشف
ومثل هذا قول أبي عبادة البحتري وذكر بركة:
لا يبلغ السمك المحصور غايتها ... لبعد ما بين قاصديها ودانيها
يعمن فيها بأوساط مجنحة ... كالطير ينقض في جو خوافيها
[فصل]
ومن عجائب الدواب البحرية الدلفين، والرعاد ويوجدان بنيل مصر إلا أن الدلفين يقذفه البحر المالح إلى النيل، فأما الدلفين فصفته كالزق المنفوخ وله رأس صغير جدا، ويقال ليس في دواب البحر ماله رئة غيره، فلذلك يسمح له بالتنفس والنفخ، وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى الأسباب في نجاته فإنه لا يزال يدفعه إلى البر حتى ينجيه، وهو من أقوى الدواب المائية، ولا يؤذي، ولا يأكل السمك، وربما ظهر على وجه الأرض وهو نائم كأنه ميت، وهو يلد ويرضع، وأولاده تتبعه حيث ذهب، ولا يلد إلا في الصيف، وفي طبعه الدعة والاستئناس بالناس، وخاصة الصبيان، وإذا صيد جاءت دلافين كثيرة لقتال صائده فإذا أطلقه لها انصرفت، والكبير منها تتبعه الصغار ليحفظها، وهو إذا رام صيد السمك صار إلى العمق خلفه في طرفة عين، وإذا لبث في العمق حينا حبس نفسه، وصعد بعد ذلك مسرعا مثل السهم يطلب التنفس، فإذا كانت بين يديه سفينة وثب وثبة يتجاوز بها الدقل إلى الناحية الأخرى، وهو يتزاوج في حركته فلا يرى ذكر إلا مع أنثى.
وأما الرعاد: ففيه من الخاصة أن أحدا من الناس لا يقدر أن يمسه، ومتى وضع الإنسان يده عليه نزعها بحركته وصاح صيحة منكرة ربما دهش بها الإنسان، ووجد في فؤاده خفقانا من ذلك، وفي البحر من عجائب المخلوقات ما لا يسع وصفها كتاب ولا يأتي على القليل منها استيعاب، ويكفي في الإخبار عن ذلك قول القائل حدث عن البحر ولا حرج، وهذا لفظ صدر عن صدر ضاق من كثرة الفحص وحرج.
[فصل]
وأما المشترك: فإن ابن أبي الأشعث يسميه المائي الأرضي لأنه يأتي الماء ويرتعي فيه، ويستنشق الهواء كما يستنشق الماء ويدب على الأرض ويسعى فيها ولا يحدث بعدم لأنه يستنشق الهواء كما يستنشق الماء إلا أن لبثه في الماء أكثر من لبثه على الأرض، وإيثاره له أكثر من إيثاره لها وأهم ما نبدأ بذكر منه:
القول في طبائع التمساح