وهذا الحيوان مليح الصور موثق الخلق جديد النفس شجيع فطن ويوجد في منازل أهل مصر، قال عبد اللطيف البغدادي: وأظنه الحيوان المسمى بالدلق، وإنما يختلف وبره ولونه بحسب البلاد، وفي طبعه أنه يسرق ما وجد من ذهب أو فضة وإن وجد حبوبا خلطها، وهو عدو الفأر ويقتله، ويقال إن عداوته له أشد من عداوة السنور، وخرف الفأر منه أشد من خوفه من السنور كما أن خوف الدجاج من ابن آوى أشد من خوفها من الثعلب، وقد حكي: من فطنته ما هو شبيه بالخرافات أن رجلا صاد فرخا منها فحبسه في قفص بحيث تراه أمه فلما رأته ذهبت ثم جاءت وفي فمها دينار فألقته بيد يدي الرجل كأنها تفدي ولدها، فلم يتناوله، وتركه مكانه فذهبت وعادت بدينار آخر حتى بلغت من العدد خمسا، فلما رأت أنه لا يضمها إليه ذهبت وعادت بخرقة كانت صرة للدنانير، تريه أنه لم يبق شيء، فلم يكترث بما فعلت فلما رأت ذلك منه عمدت إلى دينار منه فأخذته وعادت إلى جحرها فخشي أن تتفعل ذلك بالباقي، فبادر إلى الدنانير، وأخذها وأطلق ولدها.
[القول في طبائع الفأر]
أصحاب الكلام في طبائع الحيوان يقولون: جميع ما يقع عليه اسم الفأر: فأر البيت ويسمى الجرذ، والزباب، والخلد، واليربوع، وفأرة البيش، وفأرة المسك، وفأرة الإبل: فأما فأرة البيت فصنفان، جرذان وفأر، وهما كالجواميس والبقر، والبخت والعراب، والفأر من الحيوان الذي جمع له حاسة الشم والبصر، وليس في الحيوان أفسد منه لا يبقي على شيء من جليل ولا حقير إلا أهلكه وأتلفه، لا يقصر فعله عما فعله ريح قوم عاد، ويكفيه ما يحكى عن شدة رأيه وتدبيره في الشيء الذي يأكله ويحسوه أنه يأتي القارورة الضيقة فيحتال حتى يدخل طرف ذنبه في عنقها، فكلما ابتل بالدهن أخرجه وامتصه حتى لا يدع في القارورة شيئا، ويضرب به المثل في السرقة والنسيان والحذر، ويبلغ الفأر من حذره واحتياطه أنه يسكن السقوف وربما فاجأه السنور، وهو يريد أن يعبر بيته والسنور في الأرض، وهو في السقف ولو شاء أن يدخل بيته لم يكن للسنور عليه سبيلا، ويشير إليه السنور بيساره كالقائل له ارجع، فإذا رجع أولى إليه بيمينه كالقائل له: عد فيعود، وإنما يطلب بذلك أن يعي أو ينزلق، فلا يفعل ذلك إلى ثلاث مرات حتى يسقط إلى الأرض فيثب عليه، وفي طبع الجرد البري أنه لا يحفر بيته على قارعة الطريق ويتجنب الخفض والوطأ خوفا من الحافر أن يهدم عليه بيته، وحكى الجاحظ أن أناسا أنكروا أن يخلق الفأر في أرحام إناثها من أصلاب ذكورها، ولكن من أرحام بعض الأرض كطينة القاطول فإن أهلها يزعمون أنهم رأوا الفأر ولم يتم خلقه بعد وإن عينيها لتبصان ثم لا يريمون حتى يتم خلقها وتشتد حركتها، وكذلك يتولد بأرض مصر إذا انكشف ماء النيل عنها.
وأما الزباب: فأصم يكون في الرمل والعرب تضرب به المثل في السرقة فيقولون أسرق من زبابة، ولم أقف على أكثر مما ذكرت من أمره وأما الخلد: فأعمى أصم لا يعرف ما يريبه إلا بالشم إلا أن عينيه كاملتان لكن الجفن ملتحم على الناظر لا ينشق، وإنما خلق كذا لأنه يتنفس في البخار الغليظ والأرض له كالماء للسمك، وغذاه من باطن الأرض، الرطوبات والورق، وليس له على ظهر الأرض قوة، ولا نشاط، ولا حيلة بل يبقى مطروحا كالميت حتى يخطفه جارح أو يموت، ولما لم يكن له بصر عوض عنه بحدة حاسة السمع فيقال أنه يحس بالوطء الخفي، ومتى أحس بذلك جعل يحفر في الأرض، ويتحيل عليه حتى يصاد، بأن يجعل في باب جحره قملة فإذا سمعها، وأحس بها خرج إليها ليأخذها فيصاد، وفي طبعه أنه متى شم رائحة طيبة هرب، وهو يحب رائحة الكراث والبصل، وربما صيد بهما فأنه متى شمهما خرج إليهما، ومن دأبه طول الكد، ودوام الحفر للأنفاق والأسراب سواء انتفع بها أو لم ينتفع، وفي تركيبه أنه لا يفرط في الطلب، ولا يقصر فيها، ولا يخطئ الوقت الذي يظهر فيه، ولا يغلط في المقدار.