للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنها أنه متى خصي صلب عظمه، وعظمت رجلاه، وساوى الصبي في الأمن من الصلع، وغيره من الحيوان إذا خصي دق عظمه واسترخى لحمه، ومتى خصي الإنسان في أي سن كان، حفظ عليه الخصاء حال تلك السن من الأفعال السياسية والطبيعية مدة حياته فمتى خصي قبل العشر سنين لم يتغير دمه عن دم الطفولية ويبقى في مزاج الصبي لابثا لا يتحرك، وإن تعالت سنه، والدليل على ذلك أنه إذا غضب بكى، وإذا غلب سطى، ويرضيه الخداع أكثر مما يرضيه الحق ويعرض له الشر عند حضور الطعام، والبخل عليه والشح الغالب في كل شيء وكل ذلك من أخلاق الصبيان، ومن خصي وهو في النحو لا يؤثر الخصاء في مزاجه وذلك بعد ثماني عشرة سنة ولم تسقط لحيته لكنه يعدم الشهوة أما كلها أو بعضها، ويسلم له جميع ما للفحول، وهو مع الخصاء يحتلم ويرى الماء إلا أنه غير دافق، وليس له رائحة الطلع، ويجامع النساء كثيرا لكنه ينزل بعد الجهد الشديد ماء يسيرا متغير الريح، وقال الجاحظ: الخصي تقوى شهوته، وتسخن معدته وتتسع فقحته، وتنتن جلدته، وتنجرد شعرته، وتكثر دمعته، ويخرج من أكثر معاني الفحول وصفاتهم، فصار كالبغل الذي ليس بحمار، ولا فرس، وتصير أخلاقه مقسومة على طبائع الذكر والأنثى، وربما لم يخلص له خلق، ولم يصف بل يصير مركبا ممزوجا مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن العجب خروجه عن شطر طباع الذكورة إلى شطر طباع الأنوثة، ولا يعرف له التخنيث، وكان ينبغي أن يكون في الخصيان عاما.

[القول في السبب الموجب لتغاير أخلاق الإنسان]

قد تقرر بالاختبار الباحث عن الإنسان وطرائق ما فيه، وبه أن أحواله مختلفة لسبب أن كل ما يدور ويجوز عليه مقابل بالضد أو شبهه كالحياة والموت والنوم واليقظة، والحسن والقبح والصواب والخطأ، والخير والشر، والرجاء والخوف والعدل والجور، والشجاعة والجبن، والسخاء والبخل، والحلم والسفه والرضا والغضب إلى غير ذلك مما يطول تعداده، ويكثر ترداده، وما ذاك إلا ليظهر امتيازه على سائر الحيوانات فإنها لم يوجد منها شيء يزول عن خاصيته، ولا يتعداها إلى خلافها لأن الأسد لا يوجد جبانا، ولا الأرنب جريئا ولا الغزال بطيئا لا الدب سريعا وقد يوجد الإنسان جريئا كالأسد، جبانا كالأرنب سريعا كالغزال، بطيئا كالدب، خبيثا كالثعلب، سليما كالفيل، ذليلا كالكلب، عزيزا كالفهد، وحشيا كالنمر، أنيسا كالحمار، ويقال الإنسان صفو الجنس الذي هو الحيوان، والحيوان كدر النوع الذي هو الإنسان، فالإنسان هو الشخص الذي هو واحد النوع، وما كان صفوا وخلاصة بهذا النظر فيه من كل ضرب من الحيوان خلق أو خلقان، أو أكثر، فظهر بذلك عليه ويظن أيضاً فيه بالأقل والأكثر، والأغلب والأضعف كالكمون الذي في طبائع الخنزير والفأرة والبيات الذي في طباع الذئب والتحرز الذي في طبائع الجاموس من بنات الليل، والتقدم الذي في طباع الفيل أمام قطيعه تمثلا بصاحب المقدمة، والحذر الذي في طباع الخنزير، والكمن تمثلا بصاحب الساقة، وكأوبة الطير إلى أوكارها، وغيرها من الدغل والأعشاب والغياض التي تراها كالمعاقل ولما وهب الإنسان الروية وأعين بالفكر، ورفد بالعقل جمع هذه الخصال وما هو أكثر منها لنفسه، وفي نفسه بما خصصه به خالقه وميزه حين أظهره للوجود وأبرزه قال الشاعر:

وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد

<<  <   >  >>