للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومنها أنهم مثلوا النفس الإنسانية بالملك المستولي، وأفضل أحواله أن يكون عالماً عادلا لينا مهيبا مطاعا قويا من غير غلطة، رؤوفا من غير مهانة والنفس الغضبية مقال جنده الذين يسدون ثغوره ويقهرون أعداءه، ويقومون رعيته، وينفذون أمره وأفضل أحوالها أن تكون عزيزة الجانب في نفسهم سهلة الانقياد لسلطانها المستخدم لها، والنفس الشهوانية مثال رعيته الذين يجب أن يكون عريكتهم لينة مواتية ورهبتهم منه، ومن جنده ثابتة مستحكمة فمتى أخذت هذه القوى مأخذها، وتعادلت في أوزانها وأقسامها كان الإنسان كاملا وإن زال عن ذلك نقص، وكان نقصانه بمقدار زواله، والنفس الإنسانية، لا تسلم من معارضتها إلا أن تكون صارمة قوية أبية، فإنها إذا كملت شدتها واستحكمت قوتها ثبتت لمقابلة العدوين اللذين معها، إذ قيل للقوي بين الضعيفين، فأما إن كانت وضعيفة بين قوتين فهناك تجتمع المعايب والمثالب وترتفع المحاسن والمناقب.

ومنها أن البدن كالمدينة، والنفس الإنسانية كالملك، والحواس الباطنة والظاهرة كالجنود، والأعضاء كالرعية، والغضب والشهوة كعدوين ينازعانه الملك ويسعيان في هلاك رعيته، فإن قصد الملك قهرها استقامت مملكته وصارت إلى العاقبة رعيته وإن لم ينازعهما، وضيع الحزم اختلت مملكته وصارت عاقبة أمره إلى الهلاك.

ومنها أنهم قالوا: مثل النفس الإنسانية مثل الفارس ركب لأجل الصيد فشهوته فرسه وغضبه كلبه، فمتى كات الفارس حاذقا، وفرسه مرتاضا، وكلبع معلما كان جديرا بالنجح، ومتى كان الفرس جموحا والكلب عقورا، ولا فرسه تنبعث تحته على حسب إرادته، ولا كلبه يسترسل بإشارته، فهو خليق بالعطب فضلا عن أن ينال ما طلب.

ومنها أن البدن كبيت فيه إنسان وسبع، وخنزير، فالإنسان النفس الإنسانية، والسبع الغضب، والخنزير الشهوة، فأي الثلاثة غلب فالمسكن له فيجب أن تكون هاتان النفسان تحت سلطان النفس الإنسانية فيجريهما مجرى المركب الذي يركبه عند الحاجة بسرج يذلله وشكيمة تحنكه، وحنان يلينه وسوط يخفيه فإذا نزل عنه ألزمه الشكال والرباط لئلا يجد على حال من الأحوال شيئا إلى أن يشرد فيهلك ويجني على صاحبه، والقول الحق أن الخلق مشتق من الخلق وكما لا سبيل إلى تبديل الخلق كذلك لا قدرة على تحويل الخلق ولكن لا مندوحة على الاستبصار، وقمع التلون بعزائم الاستبصار حتى يصير المحمود من الأخلاق بحتا والموصوف لا يشتغل بالأرزاء به وقتا ولو لم يكن ذلك ممكنا لما وضعت الحكماء الكتب في الحض على تهذيب الأخلاق وإصلاحها، وليس ذلك بالعبث فيها بل لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة، مثاله أن الحبشي يتدلك بالماء والغسول لا ليستفيد بياضا، ولكن ليستفيد نقاء شبيها بالبياض والنفس الإنسانية إذا ساست القوتين أعني " الغضبية والشهوية "، فحذفت زوائدهما ونقت فواضلهما ووفت نواقصهما، وذيلت قوالصهما أعني إذا رأت غلمة في الشهوة أخمدت نارها، وإذا وجدت السرف في الغضبية قصرت عنائها فحينئذ يقومان على الصراط المستقيم فيعود السفه حلما، أو تحالما، والحسد غبطة، أو تغابطا، والغضب كظما أو تكاظما، وصرفت هذه الكوامن في هذه المكامن إذا سارت سورتها، وثارت ثورتها على مناهج الصواب تارة بالعظمة واللطف، وتارة بالزجر والعنف، وتارة بالأنفة وكبر النفس وتارة بإشعار الحذر وتارة بعلو الهمة، وهناك يصير العفو عند القادر ألذ من الانتقام، والعفاف عند الهائج أحلى من قضاء الوطر، والقناعة عند المحتاج أشرف من الإسفاف، والصداقة عند الموتور آثر من العداوة والمرارة عند المحفظ أطيب من المماراة على أن الأمرين بالتخلق والتطبع غير منكرين

<<  <   >  >>