تحمل أخاك على ما به ... وإلا فما فيه مستمتع
وأنى له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع
وعلى أثر ذكر الطبائع سئل جالينوس عن الإنسان فقال سراج ضعيف بين أربع رياح، يريد البروج والطبائع الأربع.
وقال آخرون إنما اختلفت أخلاق الإنسان عن اختلاف الطينة التي خلق منها، لأنها كانت مجموعة من طيب الأرض وخبيثها وسهلها وحزنها، وأحمرها وأسودها وقد أشار بعض الشعراء إلى ذلك بقوله:
والناس كالأرض ومنها هم ... واثمد يجعل في الأعين
ومن تشتكي الرجل منه الأذى ... من خشن قاس ومن لين
ومن أحسن ما يقال من القول الذي يفي بحق الإنسان في التكريم وتعلية درجة التعظيم: إن الله تعالى ركب فيه الضدين بدليل قوله تعالى) وهديناه النجدين (وهما على بعض الأقوال مختلفان، اختلاف المطعم والماء، يصدر أحدهما حالة الأفاقة، والآخر حالة الإغماء وإلى هذا أشار الشاعر بقوله هذا:
تمر على المرء أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
فهذا عذب فرات صلح لأحياء ما هو ن الفضائل في عداد المرات، وهذا ملح أجاج قطع عبابه ما نهج للمدح من المسلك، والفجاج، ولما اقتضت الحكمة الإلهية جبلة على ذلك جعل بازاء كل مذموم من الملائم محموداً من المكارم لتغشى الظلمة بالنور فبصيرته في خير المستور فتغلبه بعض هذه الأخلاق على بعض، في الإنسان تعلو فيعلو، أو تنقص فيرخص، فإن علا استحق قول الشاعر:
يا كامل الآداب منفرد العلا ... والمكرمات ويا كبير الحاسد
شخص الإمام كمالك فاستعذ ... من شر أعينهم بعيب واحد
وقول الآخر:
قد قلت حين تكاملت وغدت ... أخلاقه زيناً بلا شين
ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقيه من العين
وإن نقص استحق أن يقال فيه:
تأنست بذميم الفعل طلعته ... تأنس المقلة الرمداء بالظلم
القول في معنى تسميتهم الإنسان بالعالم الصغير فذلك كمن وجوه: منها أن معنى تسميتهم أوجد المخلوقات خمسة ضروب الجماد والنبات والحيوان والشيطان، والملك، وكلها مجموعة في الإنسان فهو جماد حيث يكون نطفة ولا حركة فيه ولا حس وهو نبات حيث ينمو ويغتذي، وهو حيوان يلد ويألم وهو شيطان حيث يقوى ويضل، وهو ملك حيث يعرف الله تعالى ويعبده.
ومنها أنه يصور كل شيء بيده، ويحكي كل صوت بفيه، ولأنه ينهش اللحم كما تنهش السباع، ويأكل البقول كما تأكله البهائم، ويقضم الحب كما تقضمه الطير، ولهذا قالوا لا متفرق لو جمع كان منه إنسان إلا العالم، ولا مجتمع لو فرق كان منه العالم إلا الإنسان، فهو إنسان بالفعل عالم اكبر بالقوة، وعالم أكبر بالفعل إنسان بالقوة.
ومنها أن الله تعالى خلق المخلوقات في عالم الأجساد على أربعة أصناف قائم كالأشجار، وراكع كالبهائم، وساجد كالحيات، والحيتان، وجالس كالجبال، فخلق الإنسان حيث يكون تارة قائماً، وتارة راكعاً، وتارة ساجداً، وتارة قاعداً ويقال إنما بالعالم الصغير لأنهم مثلوا رأسه وروحه بالشمس إذ قوام للعالم إلا بها، كما لا قوام للجسد إلا بالروح، وعقله بالقمر لأنه يزيد وينقص ويذهب ويعود، ومثلوا حواسه ببقية الكواكب السيارة، وآراؤه بالنجوم الثابتة ودمعه بالمطر، وصوته بالرعد وضحكة بالبرق، وظهره بالبر وبطنه بالبحر ولحمه بالأرض وعظامه بالجبال، وشعره وأعضاؤه بالأقاليم، وعروقه بالأنهار، ومغار عروقه بالعيون.