وأما العقل: فقال: العقل أشرف من النفس لأنه يستخلفها ولهذا إشراقه ألطف، ومنافعه في إشراقه أشرق، وحدده: بأنه قوة إلهية أبسط من الاسطقسات، كما أن الاسطقسات أبسط من المركبات وهو خليفة الله، وهو الفائض الفيض الخالص الذي لا شوب فيه ولا قذى، وإن قيل هو نور في الغاية لم يكن ببعيد، وإن قيل اسمه يعبر عن نعته لم يكن بمنكر هذا الحديث، إذا لحظ في ذروته التي يشرق منها فوق إشراق الشمس وأما إذا فحص عن أثاره في حضيضته فإنه تميز وتحصيل وتصفح، وحكم، وتصويب وتخطئة، وإجازة وإيجاب وأباحة، وأما إذا فحص عن أنحائه، فأنحاؤه على قدر ما يقال فلان عاقل، وفلان أعقل، وفلان في عقله لوثة، وفلان ليس بعاقل وهذا الاختلاف بحسب الاختلاف في الألوان، والصور، والقصر، والحسن والقبح والاعتدال والانحراف، وذلك مدروك بالحس مشهود بالعيان، وأما إذا فحص عن صنيعته فهو الحكم في قبول الشيء ورده، وتحسينه، وتقبيحه وحقه وباطله وذلك إن الأشياء أما أن تكون حسية أو عقلية، أو مركبة منهما، أو متولدة عنهما، وتكون أما صحيحة، وأما فاسدة، أو حقا أو باطلا، فالعقل يتصفح هذه كلها بنوره ويحكم لها وعليها بحكمه، ويعطي كلا منها الذي حقه وتسميته التي هي له ويقال: الإنسان بين طبيعة هي عليه وبين نفس هي له كالمنتهب المتوزع، فإن استمد من العقل نوره وشعاعه، قوى ما هو له من النفس، وضعف ما هو عليه من الطبيعة، وإن لم يستمد قوي ما هو عليه من الطبيعة وضعف ما هو من النفس.
وقال أصحاب الكلام في الطبيعيات في الإنسان قوة عالمية نظرية من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة، ثم لها نسب إلى هذه الصورة وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوة، وقد يكون بالقوة والفعل، والقوة تنقسم إلى ثلاثة أوجه: قوة هيولانية وهي الاستعداد المطلق من غير فعل ما، وهو الاستعداد الأول الذي للفعل الساذج، وبه يهتدي إلى الثدي إذا خرج من الرحم، ويبكي إذا جاع. وقوة ممكنة وهو استعداد فعل ما كقوة الطفل على الكتابة بعد ما يعلم بسائط الحروف. وقوة ملكة وهي قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة.
فالقوة النظرية قد تكون نسبتها إلى الصور تشبه الاستعداد المطلق وتسمى عقلا هيولانيا، وإذا حصلت فيها المعقولات الأول التي تتوصل إلى المعقولات الثنائية تسمى عقلا بالفعل، وإذا حصلت فيها المعقولات الثانية المكتسبة وصارت مخزونة بالفعل، متى شاء طالعها، فإن كانت حاضرة عنده بالفعل سمي عقلا مستفادا، وإن كانت مخزونة بالقوة سمي عقلا بالملكة، وها هنا ينتهي النوع الإنساني، وعنده يتشبه بالمبادئ الأول أن يتصل بالعقل الفعال، فيصرف كل شيء من نفسه، لا تقليدا، أما دفعة فيزمان واحد، وأما دفعات في أزمنة شتى، وهي القوة القدسية التي تناسب روح القدس، وأدناها الولاية، وأعلاها النبوة.
واختلف في مسكنه فذهب جالينوس من الحكماء، وأبو حنيفة من العلماء إلى أن مسكنه الدماغ، واحتجوا بأن العقل أشرف القوى فوجب أن يكون مكانه أشرف، وأشرف الأمكنة أعلاها يكون مكان العقل الدماغ وهو بمنزلة الملك العظيم الذي يسكن القصر العالي المشرف، وأيضا أن الحواس محيطة بالرأس كأنها خدم الدماغ، واقفة حوله على مراتبها، وأيضا إن محل الرأس من الجسد، محل السماء من العالم، وكما أن السماء محل الروحانيات فكذلك الدماغ فوجب أن يكون مستكن العقل وقد اعتبر اختلاط العقل إنما يكون بما يطرأ على الدماغ من مرض أو عرض، وذهب الجمهور إلى أن مسكنه القلب وعلى ذلك تضافر الكتاب، والسنة والعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى:) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب (أي: عقل فعبر عن الحال بمحله، وقال تعالى) أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها (.
أما السنة: فقوله عليه السلام:) إن في ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب (وصلاحه يكون بزيادة ما فيه من العقل الهادي إلى الخير، وفساده يكون بنقصانه الحاوي على الشر.
وأما المعقول: فإن العقل لما كان شريفا وجب أن يكون مكانه أشرف الأعضاء وأشرف الأعضاء القلب، لأنه الرئيس الأعظم، لو أنه أول عضو يخلق من الإنسان ولما كان الأهم في الخلق كان الأشرف في الأعضاء ولأن محله من البدن في الوسط، والأعضاء محيطة به فكان كالملك حوله وأشياعه وعبيده