ولعلَّ في عرض الموقف العصيب التي كانت تجتازه مصر والبلاد العربية من جرَّاء الغزو التتري الجارف، ما يُبرِز مبلغ التضحية التي بذلها قطز في قبوله تحمُّل المسؤولية حينذاك في بَلد مهدد بغزوٍ خارجيٍّ ماحق وبارتباك داخلي فظيع، وقد كان بإمكانه أن يستمتع بالسلطة الفعلية بالرغم من بقاء الملك المنصور في الحكم دون أن يكون المسؤول الأول في مثل تلك الظروف الحرجة، ولكنه آثر المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، فقضى أولاً على الارتباك الداخلي ووضع الأمور في نصابها، ثم وجَّه كل همه إلى العدو الخارجي، فاستطاع بأعجوبة خارقة حقّا إحراز النصر وإنقاذ مصر والبلاد العربية من التتار وقواتهم الضاربة.
ففي سنة أربع وخمسين وستمئة الهجرية (١٢٥٦م) مَلَكَ التتار سائر بلاد الروم بالسيف، فلما فرغوا من ذلك نزل هولاكو بن طولوي بن جنكيزخان على بغداد، وذلك في صفر سنة ست وخمسين وستمئة الهجرية (١٢٥٨ م)، ودخلوها دخول الضواري المفترسة، وقتلوا مئات الألوف من أهلها، ونهبوا خزائنها وذخائرها، وقضوا على الخلافة العباسية وعلى معالم الحضارة الإسلامية، ثم قتلوا الخليفة المستعصم بالله وأفراد أسرته وأكابر دولته.
وتقدَّم التتار إلى بلاد الجزيرة (جزيرة ابن عمر) واستولوا على (حران) و (الرُّها) و (ديار بكر) في سنة سبع وخمسين وستمئة الهجرية