شأن الإسراء وقصة الروم وغير ذلك، لا يرتاب بها العلماء ولا يشكون فيها. وقد علمت أن إسلام الأنصار كان في الاستقصاء وطول السؤال والمراجعة أشد من استقصاء جرير وبجيلة، وفي نحو ذلك كان إسلام قبائل عبد القيس، وهذه كانت سبيل قبائل طيّ. وتأمل أحوال قريش من أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما كان يظهر من آياته، ويصدق من أقواله، كيف كان يرجع بعضهم إلى بعض في الرؤساء خاصة، إن هذا الرجل ما تزل له قدم، ولا يخلف في شيء قاله، ولا يغني كيدنا له شيئا؛ متأسفين ومتحسرين على ما يخيب من سعيهم، فيقول بعضهم لبعض: فلعله نبي كما يقول، فنحن جميع وهو وحده، ونحن أغنياء وهو فقير، فيقول بعضهم لبعض: هذا من سحره.
ولما دخل سعد بن معاذ الأنصاري رحمة الله عليه مكة بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم اليهم، نزل على أبيّ بن خلف وكان خلّا له، فأراد أن يطوف بالبيت، فخاف عليه ابن خلف قريشا، فقال له: اصبر إلى أن يخف الناس، فلما خفوا خرجوا وطاف، فأبصره/ أبو جهل فقال له: أتطوف بالبيت آمنا وقد آويتم محمدا، لأفعلن ولأفعلن، فخاصمه ابن معاذ وجادله ولامه في عداوته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذكر عذرهم في قبولهم منه صلّى الله عليه وسلم، وأنه جاءهم بالنور والهدى، وأنكم على ضلال في تكذيبه، فلم يكن عنده ولا عند قريش حجة ولا ما يشبه الحجة، من ذكر زلة أو هفوة يصرفون سعد بن معاذ والأنصار عنه مع حاجتهم إلى ذلك. واستطال سعد على أبي جهل، فقال له أبيّ بن خلف: أترفع صوتك على أبي الحكم وهو سيد البطحاء، فقال له سعد: أما أنت فقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إن الله يقتلك، فراعه ذلك، ودخل على امرأته كئيبا، فقال لها: أما تسمعين ما قال أخي اليثربيّ، زعم أنه سمع محمدا يقول إنه يقتلني وما كذب محمد قط. فلحق المرأة من الرعب أكثر مما لحق أبيّا؛ فلما