عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)[فصّلت: الآية ٤٦] قال الجارود: يا محمد إن كنت نبيا فأخبرنا عما أضمرنا عليه، فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة كأنها سنة ثم رفع رأسه الشريف والعرق يتحدر عنه، فقال: أما أنت يا جارود، فإنك أضمرت أن تسألني عن دماء الجاهلية، وعن حلف الجاهلية، وعن المنيحة. ألا وإن دم الجاهلية موضوع وحلفها مردود، ولا حلف في الإسلام. ألا وإن أفضل الصدقة أن تمنح أخاك ظهر دابة أو لبن شاة، فإنها تغدو برفدة وتروح بمثله. وأما أنت يا سلمة فإنك أضمرت على أن تسألني عن عبادة الأوثان، وعن يوم السباسب، وعن عقل الهجين. فأما عبادة الأوثان فإن الله تعالى يقول: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨)[الأنبياء: الآية ٩٨] وأما يوم السباسب فقد أعقبه الله ليلة خيرا من ألف شهر، فاطلبوها في العشر الأواخر من رمضان، فإنها ليلة بلجة سمحة لا ريح فيها، تطلع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها. وأما عقل الهجين، فإن المؤمنين إخوة تتكافأ دمائهم، يجير أقصاهم على أدناهم، أكرمهم عند الله أتقاهم، فقالا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله انتهى.
وذكر في السيرة الهشامية في وفد عبد القيس أنه كان قبل فتح مكة، وذكر ما حاصله:«أنه صلى الله عليه وسلم بينما هو يحدّث أصحابه، إذ قال لهم: سيطلع عليكم من ههنا ركب هم خير أهل المشرق» وفي رواية: «ليستبين ركب من المشرق لم يكرهوا على الإسلام قد أنضوا» أي أهزلوا «الركائب، وأفنوا الزاد، اللهم اغفر لعبد القيس، فقام عمر رضي الله تعالى عنه، فتوجه نحو مقدمهم، فلقي ثلاثة عشر راكبا، وقيل كانوا عشرين راكبا، وقيل كانوا أربعين رجلا، فقال: من القوم؟ قالوا: من بني عبد القيس، فقال: أما إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكركم آنفا، فقال خيرا، ثم مشى معهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر للقوم: هذا صاحبكم الذي تريدون، فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم بباب المسجد بثياب سفرهم، وتبادروا يقبلون يده صلى الله عليه وسلم ورجله، وكان فيهم عبد الله بن عوف الأشج، وهو رأسهم، وكان أصغرهم سنا، فتخلف عند الركائب حتى أناخها وجمع المتاع، وذلك بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ثوبين أبيضين لبسهما، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، وكان رجلا دميما ففطن لنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دمامته، فقال: يا رسول الله إنه لا يستقي أي يشرب في مسوك: أي جلود الرجال، وإنما يحتاج الرجل من أصغريه لسانه وقلبه. فقال له رسول الله: إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: لا، بل الله تعالى جبلك عليهما، فقال:
الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله صلى الله عليه وسلم» والأناة على وزن قناة:
التؤدة. وقد جاء:«التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزآ من النبوة» .