المثال كما تقدم، فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح، فهو ألطف من عالم الأجساد، وأكثف من عالم الأرواح، فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال. قال: وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل، بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر.
ومما يدل على وجود المثال رؤيته صلى الله عليه وسلم للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف:
الآية ٢٤] بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام.
ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض الأولياء في غير مكانها.
وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبد القادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم، ولعل مجيء جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر، فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها، إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه.
قال الشيخ الأكبر رضي الله تعالى عنه: دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة، فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال، وهي التي لك عندي، فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر، فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه، وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة، إلا أن يدعي أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره، وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك، لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة: أي بالوعيد والزجر فليتأمل.
وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقي القرآن طريقان:
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل: أي لأن الأنبياء يحصل لهم الانسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير اكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر.
والثاني أن الملك انخلع من الملكية إلى البشرية حتى أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هذا كلامه. والراجح أن المنزّل اللفظ، والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا، أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل، وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى، وأوحاه إليه صلى الله عليه وسلم كذلك، أو حفظه جبريل من اللوح المحفوظ ونزل به.