للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونص هذه الرواية «كان الوحي يأتيني على نحوين، يأتيني جبريل فيلقيه عليّ كما يلقي الرجل على الرجل، فذلك ينفلت مني. ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني» .

قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله، لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده، فلا يثبت فيما ألقي إليه بخلافه في الحالة الثانية، لأن سماع مثل هذا الصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي اضطر إلى التثبت في ذلك، وقولنا: أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصلة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.

وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال، وقول بعضهم: الصلصلة المذكورة هي صوت الملك بالوحي، وقوله: «يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا» وكان صلى الله عليه وسلم يجد ثقلا عند نزول الوحي، ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان، وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه.

وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه «كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل لذلك. ومرة وقع فخذه على فخذي، فو الله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وربما أوحي إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت» .

أي وجاء «أنه لما نزلت سورة المائدة عليه صلى الله عليه وسلم كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها» .

وفي رواية «فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة» ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك.

وجاء «ما من مرة يوحي إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض منه» وعن أسماء بنت عميس «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه» وفي رواية «يصير كهيئة السكران» .

أقول: أي يقرب من حال المغشي عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران: أي مع بقاء عقله وتمييزه.

ولا ينافي ذلك قول بعضهم: ذكر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ عن الدنيا، لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة، وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم، وحينئذ لا ينتفض وضوءه.

ثم رأيت صاحب الوفاء قال: فإن قال قائل ما كان يجري عليه صلى الله عليه وسلم من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتفض وضوءه؟

<<  <  ج: ص:  >  >>