لأن الله تعالى يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: الآية ٢٥] .
وعن محمد بن كعب ما حاصله «أن الملأ من قريش أقسموا للنبي صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهبا، فقام يدعو الله تعالى أن يعطيهم ما سألوه فأتاه جبريل: فقال له: إن شئت كان ذلك ولكني لم آت قوما بآية اقترحوها فلم يؤمنوا بها إلا أمرت بتعذيبهم» وفيه أنه حينئذ يشكل رواية سؤالهم انشقاق القمر.
وفي رواية «أتاه جبريل، فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن شئت أن يصبح لهم الصفا ذهبا، فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب، عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت أن لا تصير ذهبا وفتحت لهم باب الرحمة والتوبة، فقال: لا، بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة» .
وفي رواية «وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلى الله عليه وسلم، بل حتى يتوب تائبهم» .
وأيضا وافق على فتح باب الرحمة والتوبة، لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن سؤالهم لذلك جهل، لأنه خفيت عليهم حكمة إرسال الرسل، وهي امتحان الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل، ليكون إيمانهم عن نظر واستدلال، فيحصل الثواب لمن فعل ذلك، ويحصل العقاب لمن أعرض عنه، إذ مع كشف الغطاء يحصل العلم الضروري، فلا يحتاج إلى إرسال الرسل، ويفوت الإيمان بالغيب.
وأيضا لم يسألوا ما سألوا من تلك الآيات إلا تعنتا واستهزاء، لا على جهة الاسترشاد ودفع الشك، وإلى سؤالهم تلك الآيات وارتيابهم في القرآن، وقولهم فيه إنه سحر وافتراء: أي سحر يأثره: أي يأخذه عن مثله وعن أهل بابل، يفرّق به بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)[المدثر: الآية ٢٥] من قول أبي اليسر، وهو عبد لبني الحضرمي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجالسه وإلى قول أبي جهل أيضا: تزاحمنا نحن وبنو عبد المطلب الشرف، حتى صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزل قوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام: الآية ١٢٤] وإلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله:
عجبا للكفار زادوا ضلالا ... بالذي فيه للعقول اهتداء
والذي يسألون منه كتاب ... منزل قد أتاهم وارتقاء
أي أعجب عجبا من حال الكفار حالة كونهم زادوا ضلالا بالقرآن الذي فيه اهتداء للعقول، وأعجب عجبا أيضا من الأمر الذي يطلبونه منه صلى الله عليه وسلم، وهو كثير من جملته كتاب منزل معه عليهم من السماء وهو القرآن: