وأول حدوثه في ملتنا كان بمصر، أمر به أميرها من قبل معاوية مسلمة بن مخلد الصحابي رضي الله تعالى عنهما، فإنه لما اعتكف بجامع عمرو سمع أصوات النواقيس عالية، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين بجامع عمرو، ففعل ذلك من نصف الليل إلى قريب الفجر. ومسلمة هذا تولى مصر من معاوية بعد عتبة بن أبي سفيان أخي معاوية رضي الله تعالى عنهما، وعتبة تولاها حين مات أميرها عمرو بن العاص، وهذا مما يدل على أن عمرو بن العاص مدفون بمصر، وكان عتبة خطيبا فصيحا.
قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية: عتبة بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان. خطب عتبة يوما أهل مصر فقال: يا أهل مصر خف على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه، وذم الباطل وأنتم تفعلونه كالحمار يحمل أسفارا، يثقله حملها ولا ينفعه علمها، وإني لا أداوي داءكم إلا بالسيف، ولا أبلغ السيف ما كفاني السوط، ولا أبلغ السوط ما صلحتم على الدرة، فألزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا، وهذا يوم ليس فيه عتاب ولا بعده عتاب.
ومما يؤثر عنه: ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم. وقال لبنيه يوما: تلقوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا المزيد منها بالشكر عليها.
ومسلمة أول من جعل بنيان المنابر التي هي محل التأذين في المساجد، فلما ولي أحمد بن طولون رتب جماعة يكبرون ويسبحون ويحمدون، فلما ولي صلاح الدين يوسف بن أيوب وحمل الناس على اعتقاد مذهب الأشعري والخروج عما كان يعتقد الفواطم أمر المؤذنين أن يعلنوا وقت التسبيح بذكر العقيدة المرشدة، وقد وقفت عليها فإذا هي ثلاث ورقات، ولم أقف على اسم مؤلفها، فواظبوا على ذكرها في كل ليلة.
قيل في سبب نزول قوله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النّساء: الآية ٧٨] أن اليهود قالوا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها، وغلت أسعارها، فرد الله تعالى عليهم بقوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النّساء: الآية ٧٨] أي يبسط الأرزاق ويقبضها، وعند ظهور الإسلام وقوته في المدينة قامت نفوس أحبار اليهود ونصبوا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: الآية ١١٨] وقال في موضع آخر إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [آل عمران: الآية ١٢٠] .
وعن صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بنت حيي قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، وكانا من أكبر اليهود وأعظمهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوا إليه ثم جاآ من العشي، فسمعت عمي يقول لأبي؛ أهو هو؟ قال: نعم