وردّ بأن الحديث الدال على ذلك صحيح، والعصمة إنما وجبت لهم في عقولهم وأديانهم وأما أبدانهم فيبتلون فيها، والسحر إنما أثر في بعض جوارحه صلى الله عليه وسلم فقد تقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها من ذكرها ما أنكر صلى الله عليه وسلم من بصره لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم صار يخيل له أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وهذا متعلق بالعقل.
ثم رأيت أبا بكر العربي قال: لم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه صلى الله عليه وسلم أمر، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث لا أصل له.
قال: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا واستجرارا إلى القول وإبطال معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والقدح فيها؛ وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين فعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد هذا كلامه.
وممن كان حريصا على رد الناس عن الإسلام أيضا شاس بن قيس، كان شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم. مر يوما على الأنصار الأوس والخزرج وهم مجتمعون يتحدّثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم بعد ما كان بينهم من العداوة، فقال: قد اجتمع بنو قيلة، والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر فتى شابا من يهود، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم؛ ثم اذكر يوم بعاث: أي أيوب الحرب الذي كان بينهم، وما كان فيه، وأنشدهم ما كانوا يتقاولون به من الأشعار ففعل، فتكلم القوم عند ذلك: أي قال أحد الحيين: قد قال شاعرنا كذا، وقال الآخر قد قال شاعرنا كذا، وتنازعوا وتواعدوا على المقاتلة: أي قالوا: تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت، فنادى هؤلاء يا للأوس، ونادى هؤلاء يا للخزرج، ثم خرجوا إليهم وقد أخذوا السلاح، واصطفوا للقتال، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم، فقال:«يا معشر المسلمين الله الله» أي اتقوا الله «أبدعوى الجاهلية» أي وهي يا للخزرج يا للأوس «وأنا بين أظهركم؟ بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وألفكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر؛ وألف به بينكم؟ فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى في شاس بن قيس يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً [آل عمران: الآية ٩٩] الآية» .
وقد جاء في ذم هذه الكلمة التي هي دعوى الجاهلية، وهي: يا لفلان قوله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا» أي قولوا له اعضض على ذكر أبيك ولا تكنوا عنه بالهن؛ فلا تقولوا على هن أبيك، بل قولوا على ذكر أبيك، تنكيلا له وزجرا عما أتى به: أي وقد كان أنزل الله تعالى فيهم