قوله تعالى لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [البقرة: الآية ١٤٦- ١٤٧] أي يكتمون ما علموا من أن الكعبة هي قبلة الأنبياء، أي المقصودة بالاستقبال، لا أنهم يستقبلونها لأجل صخرة بيت المقدس.
وذكر عن بعضهم أن اليهود لم تجد كون الصخرة قبلة في التوراة، وإنما كان تابوت السكينة على الصخرة، فلما غضب الله على بني إسرائيل رفعه فصلوا إلى الصخرة بمشاورة منهم، أي وادعوا أنها قبلة الأنبياء- وما تقدم عن الزهري تقدم الجواب عنه- ثم قالوا والله إن أنتم إلا قوم تفتنون، فأنزل الله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: الآية ١٤٢] أي الجهات كلها فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: الآية ١٤٢] أي فكان أوّل ما نسخ أمر القبلة.
فعن ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما يذكر لنا والله أعلم شأن القبلة فاستقبل صلى الله عليه وسلم بيت المقدس- أي بمكة والمدينة- ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة.
أي وأما قوله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: الآية ١١٥] فمحمول على النفل في السفر إذا صلى حيث توجه.
وما قيل إن سبب نزولها ما ذكره بعض الصحابة، قال «كنا في سفر ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت» ففيه نظر لضعف الحديث؛ أو هو محمول على ما إذا صلوا باجتهاد.
أي ولما توجه صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال المشركون من أهل مكة توجه محمد بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك أي يقرب أن يدخل في دينكم ومن ثم ارتد جماعة وقالوا مرة هاهنا ومرة هاهنا.
«ولما حوّلت القبلة إلى الكعبة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء فقدم جدار المسجد موضعه الآن، وقالت الصحابة له: يا رسول الله لقد ذهب منا قوم قبل التحول، فهل يقبل منا ومنهم؟ فأنزل الله تعالى قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: الآية ١٤٣] أي صلاتكم إلى بيت المقدس» . وذكر في الأصل «أن الصحابة قالوا:
مات قبل أن تحول قبل البيت رجال وقتلوا، أي وهم عشرون، ثمانية عشر من أهل مكة، واثنان من الأنصار وهما البراء بن معرور، وأسعد بن زرارة فلم ندر ما نقول فيهم؛ فأنزل الله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: الآية ١٤٣] الآية» ولفظة القتل وقعت في البخاري.
وأنكرها الحافظ ابن حجر فقال: ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت