الأصح، يأخذ من كلام الزمخشرى نفسه ما يبرر به موقفه الذى وقفه منه للرد على اعتزالاته، فحيث يقول الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى فى الآية [٧٣] من سورة التوبة: {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} : " {جَاهِدِ الكفار} بالسيف {والمنافقين} بالحُجَّة {واغلظ عَلَيْهِمْ} فى الجهادين جميعاً ولا تحابهم. وكل مَن وُقِفَ منه على فساد فى العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه، يُجاهَد بالحُجَّة، وتُستعمل معه الغلظة ما أمكن"، عندما يقول الزمخشرى هذا، ويرمى من ورائه إلى أن الآية شاملة لخصومه من أهل السُّنَّة، نرى ابن المنير يستغل هذا الكلام لنفسه ويقلبه على خصمه المعتزلى فيقول:"الحمد لله الذى أنطقه بالحُجَّة لنا فى إغلاظ عليه أحياناً".
وقد تبدو على ابن المنير علائم البِشْر، وتأخذه نشوة الفرح والسرور، عندما يرى أن الزمخشرى قد ابتعد عن متطرفى المعتزلة، وخالفهم فى بعض آرائهم، وأخذ برأى أهل السُّنَّة ومثل هذا نراه واضحاً عندما فسَّر الزمخشرى قوله تعالى فى الآية [١٨٥] من سورة آل عمران: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} .. حيث قال فى تفسير هذه الآية:"فإن قلت: كيف اتصل به - أى بقوله:{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} - {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} .. قلت: اتصاله به على أن كلكم تموتون، ولا بد لكم من الموت، ولا تُوَفَّون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقب موتكم، وإنما تُوَفَّونها يوم قيامكم من القبور. فإن قلت: فهذا يوهم نفى ما يُروى أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. قلت: كلمة التوفية تُزيل هذا الوهم، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور".
وهنا نرى ابن المنير يعترف بأن الزمخشرى قد أحسن فى مخالفته لأصحابه من المعتزلة، وموافقته لأهل السُّنَّة، فيقول:"هذا - كما ترى - صريح فى اعتقاده حصول بعضها قبل يوم القيامة، وهو المراد بما يكون فى القبر من نعيم وعذاب، ولقد أحسن الزمخشرى فى مخالفة أصحابه فى هذه العقيدة، فإنهم يجحدون عذاب القبر، وها هو قد اعترف به".
* * *
* موقف الزمخشرى من المسائل الفقهية:
هذا.. وإن الزمخشرى - رحمه الله - يتعرض إلى حد ما، وبدون توسع إلى المسائل الفقهية التى تتعلق ببعض الآيات القرآنية، وهو معتدل لا يتعصب لمذهبه الحنفى.