للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من أئمتنا المعصومين من البيان، أتيتكم به مع قِلَّة البضاعة، وقصور يدى عن هذه الصناعة، على قدر مقدور، فإن المأمور معذور، والميسور لا يُترك بالمعسور، ولا سيما أنى كنت أراه أمراً مهماً، وبدونه أرى الخطب مدلهماً، فإن المفسِّرين وإن أكثروا القول فى معانى القرآن، إلا أنه لم يأت أحد منهم فيه بسلطان، وذلك لأن فى القرآن ناسخاً ومنسوخاً، ومحكماً ومتشابهاً، وخاصاً وعاماً، ومبيناً ومبهماً، ومقطوعاً وموصولاً، وفرائض وأحكاماً، وسُنَناً وآداباً، وحلالاً وحراماً، وعزيمة ورُخصة، وظاهراً وباطناً، وحداً ومطلعاً.. ولا يعلم تمييز ذلك كله إلا مَن نزل فى بيته، وذلك هو النبى صلى الله عليه وسلم وآله وأهل بيته، فكل ما لا يخرج من بيتهم فلا تعويل عليه، ولهذا ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم: "مَن فسَّر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ"، وقد جاءت عن أهل البيت صلوات الله عليهم فى تفسير القرآن وتأويله أخبار كثيرة، إلا أنها خرجت متفرقة عن أسئلة السائلين، وعلى أقدار أفهام المخاطبين، وبموجب إرشادهم إلى مناهج الدين، وبقيت بعد خبايا فى زوايا، خوفاً من الأعداء وتقيَّة من البعداء، ولعله مما برز وظهر لم يصل إلينا الأكثر، لأن رواته كانوا فى محنة من التقيَّة، وشدة من الخطر، وذلك أنه لما جرى فى الصحابة ما جرى، وضَلَّ بهم عامة الورى، أعرض الناس عن الثَقَلين، وتاهوا فى بيداء ضلالاتهم عن النجدين إلا شرذمة من المؤمنين فمكث العامة بذلك سنين، وعمهوا فى غمرتهم حتى حين، فآل الحال إلى أن نبذ الكتاب حملته، وتناساه حفظته، فكان الكتاب وأهله فى الناس وليسا فى الناس، ومعهم وليسا معهم، لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا. وكان العلم مكتوماً، وأهله مظلوماً، لا سبيل لهم بإبرازه إلا بتعميته وإلغازه، ثم خلف من بعدهم خلف غير عارفين ولا ناصيين، لم يدروا ما صنعوا بالقرآن، وعمن أخذوا التفسير والبيان. فعمدوا إلى طائفة يزعمون أنهم من العلماء، فكانوا يُفسِّرون لهم

بالآراء، ويروون تفسيره عمن يحسبونه من كبرائهم، مثل أبى هريرة وأنس وابن عمر ونظرائهم، وكانوا يعدون أمير المؤمنين من جملتهم، ويجعلونه كواحد من الناس، وكان خير مَن يستندون إليه بعده ابن مسعود وابن عباس، ممن ليس على قوله كثير تعويل، ولا له إلى لُبَاب الحق سبيل، وكان هؤلاء الكبراء ربما ينقلونه من تلقاء أنفسهم غير خائفين من مآله، وربما يسندونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، ومن الآخذين عنهم مَن لم يكن له معرفة بحقيقة أحوالهم، لما تقرر عندهم من أن الصحابة كلهم عدول ولم يكن لأحد منهم عن الحق عدول، ولم يعلموا أن أكثرهم كانوا يُبطنون النفاق، ويجترئون على الله ويفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عزة وشقاق، وهكذا كان حال الناس قرناً بعد قرن، فكان لهم فى كل قرن

<<  <  ج: ص:  >  >>