للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هؤلاء فقالوا: يا رسول الله؛ قد حلفنا على ذلك، فأنزل الله آيات الحلف.. ثم استشكل المؤلف على هذه الرواية إشكالين:

أولهما: أن مثال هذه المعاتبات ونسبة التحريم والاعتداء والتقوى ولغو الأيمان غير مناسبة لمقام علىّ.

وثانيهما: أن علياً إما كان عالماً بأن تحريم الحلال إن كان بالاستبداد والرأى كان من البدع والضلال، وإن كان بالنذر وشبهه كما دَلَّ عليه الخبر، كان مرجوحاً غير مرضى لله تعالى، ومع ذلك حرَّمه على نفسه، أو كان جاهلاً بذلك، وكِلا الوجهين غير لائق بمقامه..

ثم أجاب عن هذين الإشكالين بجواب كله من قبيل النظرات الصوفية فقال: "والجواب الجلى لطالبى الآخرة والسالكين إلى الله، الذين بايعوا علياً بالولاية، وتابعوه بقدم صدق، واستشهوا نفحات نشأته حال سلوكه أن يقال: إن السالك إلى الله يتم سلوكه باستجماعه بين نشأتى الجذب والسلوك، بمعنى توسطه بين تفريط السلوك الصرف، وإفراط الجذب الصرف، فإنه إن كان فى نشأة السلوك فقد جمد طبعه ببرودة السلوك حتى يقف عن السير. وإن كان فى نشأة الجذب فقط، فنى بحرارة الجذب عن أفعاله وصفاته وذاته، بحيث لا يبقى منه أثر ولا خبر، وهو وإن كان فى روح وراحة، لكنه ناقص كمال النقص من حيث أن المطلوب منه حضوره بالعودة لدى ربه مع جنوده، وخدمه، وأتباعه، وحشمه، وهو طرح الكل، وتسارع بوحدته، فالسالك إلى الله تكميله مربوط بأن يكون فى الجذب والسلوك منكسراً برودة سلوكه بحرارة جذبه، فالجذب والسلوك كالليل والنهار وكالصيف والشتاء، من حيث أنهما يربيان المواليد بتضادهما، فهما - مع كونهما متنازعين متآلفان متوافقان.

إذا علمت ذلك، فاعلم أن السالك إذا وقع فى نشأة الجذب، وشرب من شراب الشوق الزنجبيلى، سكر وطرب ووجد، بحيث لا يبقى فى نظره سوى الخدمة للمحبوب، وكل ما رآه منافياً للخدمة رآه ثقلاً ووبالاً على نفسه ومكروهاً لمولاه، فيصمم فى طرحه، ويعزم على ترك الاشتغال به، وهو من كمال الطاعة لا أنه ترك الطاعة كما يظن، فلا ضير أن يكون أمير المؤمنين حال سلوكه وقع فى تلك النشأة، وحرَّم على نفسه كل ما يشغله عن الخدمة، لكمال الاهتمام بالطاعة، ولما لم يكن تحصيل الكمال التام إلا بالجمع بين النشأتين، أسقاه محمد صلى الله عليه وسلم من شراب السلوك، لأنه كان مكملاً مربياً له ولغيره، ولذا قالوا: لأن يكون للسالك شيخ وإلا فيوشك أن يقع فى الورطات المهلكة، ولا منقصة فى أمثال هذه المعاتبات على الأحباب، بل فيها من اللطف والترغيب فى الخدمة ما لا يخفى، وعلىّ كان عالماً بأن الكمال لا يحصل إلا بالنشأتين، لكنه يرى حين الجذب أن كل ما يشغله عن الخدمة فهو مكروه المحبوب،

<<  <  ج: ص:  >  >>