للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

«معروف» بينهما لكي يستطيع أَنْ «يبني» عليه الكلام، وينبغي أَنْ يتحرى المُتَكَلِّم أَنْ يبتدئ بأعرف الأشياء بينه وبين المخاطب قدر استطاعته.

ومعنى هذا أَنَّ بداية الجملة الاسمِيَّة مرتبطة بالمُتَكَلِّم وإرادته، وهو الذي يكسبها مشروعيَّة وجودها بأن يبدأها بـ «شيء معروف» بينه وبين المخاطب.

ويعني هذا أيضا أَنَّ صحَّة الجملة الاسمِيَّة مشروطة بأن يكون «مبتدؤها» معروفًا بين المُتَكَلِّم والمخاطب، أي أَنَّ الجملة الاسمِيَّة لكي تقع صحيحة يجب أَنْ يبدأ المُتَكَلِّم بما هو معروف بينه وبين المخاطب، ولا بد أَنْ تكونَ هناك نقطة لقاء معرفية بين المُتَكَلِّم والمخاطب لكي يمتدَّ الكلامُ وتتكوَّن الجمل التالية) (١).

وهنا سؤال مُهِمّ هو: ألا يتدخَّل سياقُ الحال في هذه المعرفة بين المُتَكَلِّم والمخاطب؟ ! وهل يُعقَلُ أَنْ يبدأ المُتَكَلِّم كلاما بـ «شيء معروف» يعرفه المُتَكَلِّم والمخاطب بدون أَنْ يكون هناك «رابط سِياقِيّ ما» يربط المُتَكَلِّم بالمخاطب سلفا؟ ! وهل يُعقَل على سبيل المثال أَنْ يُوقف أحدُ الأشخاص شخصا في الطريق لا يعرفه ولا توجد بينهما سابق معرفة، ولم ير الأول الثاني قط، ثُمَّ يقول الأول للثاني: «عبد الله نجح»، أو «الطعام لذيذ»؟ ! إِنَّ هذا لا يُعقل، وسيظنّ الشخص الثاني أَنَّ الأول صاحب السؤال مجنونا يهذي.

إن المُتَكَلِّم الذي يريد أَنْ يُنْشِئ «اتصالا» بينه وبين المخاطب لا بدَّ أَنْ تكونَ لديه «الإرادة والدافع» لإنشاء هذا الاتصال، ولكي ينجح هذا الاتصال يجب أَنْ يبدأ المُتَكَلِّم بنقطة لقاء معرفية بينه وبين المخاطب، ونقطة اللقاء المعرفيَّة هذه يتدخل السِّياق في تحديدها؛ فمثلا عندما يضم

«مسجدٌ» مجموعة من روّاده لا يعرف بعضهم بعضا لحضور «محاضرة علمِيَّة» لأحد العلماء، وبعد انتهاء المحاضرة قال أحد الحاضرين لباقي المجموعة: «المحاضرة جَيِّدة». فكون هذه المجموعة في «مسجد» يتلقَّون «محاضرة» يمثل هذا كله سياقا يُمَكِّنُ أحدَهم من أَنْ يختار «مبتدأ» يشترك الجميع في معرفته، هو «المحاضرة» ويخبر عنه بخبر هو «جَيِّد»، وتتقبَّل باقي المجموعة هذا الخبر، ويجعله السِّياق مستساغا مقبولا. ولو قام نفس الشخص قائل العبارة بقول نفس العبارة خارج المسجد لأحد الأشخاص لاستنكرت عليه هذه الجملة.

ولَعلَّ هذا ما يجعل كاتب المقال الصحفي، أو من يكتب كتابا يضع له عنوانا، يكون بمثابة نقطة اللقاء المعرفيَّة المشتركة بين كاتب المقال أو الكتاب وقارئه، ويكون المقال ذاته أو الكتاب عينه بمثابة الخبر لهذا المبتدأ.


(١) تنبغي الإشارة إلى أنه يجوز في الشعر وفي ضعف من الكلام الابتداء بالنكرة. سيبويه: الكتاب ١/ ٤٨

<<  <   >  >>