للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دليل هذا ما ناقشه سيبويه في باب «هذا باب الأفعال التي تستعمل وتلغى»، حيث أورد في هذه الباب مجموعة الأفعال: «ظنّ، حسب، خال، رأى، زعم»، وأشار إلى أَنَّ إعمال هذه الأفعال وتقديم معمولها عليها يتوقَّف على ما في نفس المُتَكَلِّم من شك أو يقين، فيقول:

« ... وتقول: زيدٌ أظنّه ذاهبا. ومن قال: عبدَ الله ضربتُه نصَبَ؛ فقال: عبدَ الله أظنّه ذاهبا. وتقول: أظنّ عمرًا منطلقا وبكرا أظنّه خارجا، كما قلت: ضربت زيدًا وعمرًا كلمته، وإن شئتَ رفعتَ على الرفع فى هذا. فإِن ألغيتَ قلت: عبدُ الله أظنُّ ذاهبٌ، وهذا إخالُ أخوك، وفيها أُرَى أبوك. وكلَّما أردتَ الإِلغاء فالتأخيرُ أقوى. وكلٌّ عربىٌّ جَيِّد. وقال اللعين يهجو العجاج:

بِالأراجيزِ يا ابنَ اللُّؤْمِ توعدُني وفى الأراجيز خِلْتُ اللُّؤْمُ والخَوَرُ [بحر البسيط]

أنشدَنَاه يُونُس مرفوعا عنهم. وإِنَّمَا كان التأخير أقوى لأنَّهُ إِنَّمَا يجيء بالشكّ بعدما يَمْضِى كلامُه على اليقين، أو بعدما ما يَتبدئُ وهو يريد اليقينَ ثُمَّ يُدْرِكُه الشكُّ، كما تقول: عبدُ الله صاحبُ ذاك بلغَنى، وكما قال: من يقول ذاك تَدرِى، فأَخّرَ ما لم يَعمَلْ في أوله كلام. وإِنَّمَا جعل ذلك فيما بلغه بعدما مَضى كلامُه على اليقين، وفيما يَدرى فإذا ابتدأ كلامَه على ما فى نيّته من الشكَ أَعْملَ الفعلَ قدّم أوْ أخَّر، كما قال: زيدًا رأيتُ، ورأَيتُ زيدا») (١).

إن جملة «عبد الله أظنّ ذاهبٌ» تدل على أَنَّ حالة اليقين كانت مسيطرة على المُتَكَلِّم في بداية الكلام، ثُمَّ طرأت حالة الشك عليه، أَمَّا جملة «أظنّ عبدَ الله ذاهبا» تعني أَنَّ حالة الشك مسيطرة على المُتَكَلِّم قبل بداية الجملة وفي أثنائها.

إن كلام سيبويه هنا يدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك أو المماراة على أَنَّ لسياق الحال دورا مهما على الجملة إعرابا ودِلالةً.

وفي هذا النَّصّ نلاحظ أنَّ العلامة الإعرابِيّة بالتعاون مع تقديم المعمولات وتأخيرها عبرت عن حالة الشك واليقين التي عليها المُتَكَلِّم.

ـ المخاطب ودوره في التوجيه الإعرابِيّ وإثرائه:

لا نريد بعد حديثنا عن دور المُتَكَلِّم في التوجيه الإعرابِيّ أَنْ نغفل دور المخاطب في هذه العَمَلِيَّة، وهو دور أيضا مُهِمّ، وله خطورته، فقسم كبير من قواعد اللُّغَة يقع تحت سيطرته، ويتَأَثَّر به.


(١) سيبويه: الكتاب، ١/ ١٢٠

<<  <   >  >>