ومن جميل إشارات العلماء إلى أسباب تعَدُّد الرويات إعرابيا قولهم:
«وحين لاحت ضرورة وضع قواعد نحوِيَّة لِلُّغَة العربِيَّة اتجه العلماء إلى ديوان العربِيَّة، وهو الشعر، فاستخرجوا من أنساقه قواعد التركيب، كما استخرجوا من مفرداته قواعد الصوغ القياسي، وبنوا مقاييس اللُّغَة على نسبة الشيوع، ثُمَّ جعلوا الأَقَلّ استثناء من المقياس العام.
وعلى الرغم مما لابس عَمَلِيَّة التَّقْعِيد من خلط ــ أحيانا ــ بين اللهجات، أو بينها وبين المستوى الفصيح ــ فقد كان الأساس المشترك دائما هو ما روي عن الشعراء والخطباء من أقوال سارية على الألسن، فاشية في الناس. ولقد تقَبَّل النُّحَاة ما بدا من تضارب في الشواهد المرويَّة؛ ليجعلوا في المسألة الواحدة قولين أو أكثر، دون أَنْ يجدوا في ذلك غضاضة، أو يحسوا حرجا، حتى إِنَّ النحو قد انتهى إلى الأجيال اللاحقة مطبوعا بطابع الاختلاف وتعَدُّد الأقوال، بل وربما سلك مسلك التناقض.
وما نحسب أَنْ تعَدُّد الأقوال أو تضاربها يعزى إلى اختلاف القبائل فحسب؛ أي: إلى اختلاف مصادر الرواية، بل إِنَّهُ يرجع أساسا ــ وفي تقديرنا ــ إلى أَنَّ مصدر التَّقْعِيد كان أدبيًّا، ومن شأن اللُّغَة الأدبِيَّة أَنْ تختلف في الجانب التركيبِيّ اختلافا بَيِّنا من فرد إلى فرد، ومن شاعر إلى شاعر، بل من شاعر في موقف معين إلى نفس الشاعر في موقف آخر؛ نتيجة اختلاف المشاعر، وتباين الأحاسيس، وتغَيُّر الظروف البيئِيَّة والنفسِيَّة، هذه حقيقة علمِيَّة مسلمة») (١).
والعلاقة بين التوجيه والتَّقْعِيد النَّحْوِيّين أَنَّ التوجيه مرحلة تالية بعد التَّقْعِيد، فمن يقوم بالتوجيه لا بد أَنْ تكون تحت يديه القواعد التي يُخَرِّجُ عليها هذا التوجيه، فالتَّقْعِيد تنظير، والتوجيه تطبيق لهذا التنظير.
- المصطلح الرابع (( ... الأصل)):
هذا المصطلح من المصطلحات التي استخدمها سيبويه في الكتاب، وسَيَرِدُ هذا المصطلح في حديثنا، وسنرتب عليه بعض النتائج؛ لذلك من اللازم الوقوف عنده وإيضاح المقصود منه.
لهذا المصطلح دلالة مُعَيَّنَة على الجانب النَّحْوِيّ ودلالة أخرى على الجانب الصَّرْفِيّ، وسنبدأ بتحديد المقصود به على الجانب النَّحْوِيّ أولا.
» معنى مصطلح «الأصل» على المستوى النَّحْوِيّ:
(١) د. عبد الصبور شاهين: العَرَبِيَّة لغة العلوم والتقنية، ص ٧٥ ــ ٧٦