إن اهتمام سيبويه بالاستعمال اللغويّ والاعتماد عليه والاستفادة منه لَهو دليل على ما أكدَّناه من تنميط القاعدة النحوِيَّة وتتَبُّعها في السِّياقات المختلفة، كما أَنَّهُ يؤكِّدُ الاتجاه الإِحْصَائِيّ الذي كان يتبناه.
وقد يُطرَح علينا سؤال ونحن في معرض حديثنا عن علاقة تنميط القاعدة عند سيبويه بالسياق يقول: ألا يتعارض ميل سيبويه لتنميط القاعدة النحوية والرجوع لسياق الحال؟
ونقول مجيبين إنَّه لا تعارض بين تنميط القاعدة عند سيبويه والرجوع لسياق الحال؛ لأنَّ سيبويه عندما ينمِّطُ القاعدة ينمِّط معها سياق الحال إنْ أمكن، فهو يُلازم بين القاعدة المنمَّطة وسياق الحال الملازم لها، وعندما يذكر نمط القاعدة يذكر معها الدلالات السياقية المرتبطة بها، فمثلا:
• التركيب «أداة الاستفهام) ما / كيف (+ الضمير أنت + حرف العطف الواو + اسم علم»، يمثل نمطا تركيبيًّا مرتبط بدلالة التحقير أو الرِّفْعة.
• ودلالة الفعل المضارع في التركيب «جملة) سببية (+ حتى) الابتدائية (+ [فعل مضارع مرفوع + فاعل ... ) جملة مسببة (]» تلازم المستقبلية أو الحالية حسبما يدل عليه السياق.
***
٤ ــ معايشة التراكيب اللُّغَوِيَّة في نصوصها المنطوقة:
العنصر الرابع من عناصر المنهج: معايشة التراكيب اللغوية في نصوصها المنطوقة. ونقول: لم يكن لسيبويه أَنْ يصل إلى ما وصل إليه من قواعد وأَنْ يقف على أدقّ التفاصيل اللُّغَوِيَّة والدِّلالِيَّة إلا بمعايشة نصوص اللُّغَة والامتزاج بها امتزاج اللحم بالعظم.
وتشهد بهذا عشرات النصوص في الكتاب منها مثلا قوله عن الشعراء:«وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها») (١). فهذا النَّصّ ورد في «الضرورات الشعرِيَّة وما يجوز في لغة الشعر»، ومقولته هذه تشي بأَنَّه كان يقف متأمِّلا أمام الضرورة في النَّصّ الشعري، ويخرج بعد هذا التأَمُّل بأَنَّ الضرورة الشعرِيَّة يأتي بها الشاعر لـ «وجه ما، وهدف يبتغيه»، ولا شك أَنَّ هذا الهدف في خدمة «معنى النَّصّ» الذي يصل إلى المتلقي. ولاشك أيضا أَنَّه لكي يصل إلى مبتغى الشاعر لابد من معرفته لملابسات النصوص وسياقاتها الذي قيلت فيها. وهذا يدل على تمام المعايشة للنص المُسْتقى منه القاعدة.