للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في ختام هذه الجزئيَّة نشير إلى أمر مثير للانتباه هنا ويستحق التسجيل وهو أَنَّهُ من الألفاظ أو المصطلحات التي ذكرها سيبويه في وصفه العلاقة بين المبتدأ والخبر مصطلح «البناء»، فكثيرا ما أشار إلى أَنَّ الخبر «يُبْنَى» أو «مبنيٌّ» على المبتدأ، فقال مثلا في عنوان أحد أبوابه «هذا باب ما يرتفع فيه الخبر لأنَّهُ مبنىٌّ على مبتدأ») (١)، وهذا المصطلح الذي تكرر عدة مرَّات له دلالته عند صاحب الكتاب وله مغزاه، ولم يكن اختياره له اعتباطيا ولا خبط عشواء، تلك الدِّلَالَة وهذا المغزى يتمثل في:

- أن البناء لا يكون دفعة واحدة، بل يبدأ بلبنة وبعدها لبنة إلى أَنْ يكتمل البناء، وكذلك الجملة.

- كما أَنَّ البناء لا بد أَنْ يكون ثابتا على أرض محدَّدة وذي شكل مُحَدَّد وكذلك الجملة تتطلَّب قدرا مُحَدَّدا من المعرفة تنطلق منه. فالبناء لا يكون في فراغ، ولا على مساحة لا متناهية من الأرض، بل يحتاج البناء إلى مساحة محدَّدة للبناء عليها، والمبتدأ يحتاج إلى أَنْ يكون محددا وليس مطلقا مبهما حتى يتمكَّن المُتَكَلِّم من البناء عليه.

- ويتطلب البناء أيضا إرادة واعية حتى تضع تصاميمه وتخرجه بشكل منتظم جميل يسرُّ الناظرين، وكذلك الجملة.

- كما أَنَّ الباني لا يبني شيئا بلا هدف ولا غاية وكذلك الجملة يهدف بها المُتَكَلِّم شيئا يبغي تحقيقه) (٢).

- والبناء قد يكون طابقا وقد يكون عدة طوابق، ولا يمكن الوصول للطوابق العليا بدون الطوابق السفلى، وكذلك الجملة في معانيها المختلفة؛ فلكي نمر بتلك المعاني العليا السِّياقِيَّة للجملة لابد أَنْ نمرَّ أولا بالمعاني السفلى: معاني الألفاظ المفردة، معاني الأوزان الصَّرْفِيَّة، المعاني النحوِيَّة) (٣).


(١) سيبويه: الكتاب، ٢/ ٨٦
(٢) وفكرة البناء هذه كانت من الأدوات التي استخدمها سيبويه في تحديد الوظائف النَّحْوِيَّة لبعض الألفاظ، فمثلا ألفاظ التوكيد لا تكون ((مبتدأ)) أو ((خبر)) في الغالب يبنى عليها و ((لأنها إِنَّمَا توصف بها الأسماء، ولا تبنى على شيء)).٢/ ١١٦، كما تتردد كلمة البناء مع بنية الكلمة، فيقال الأبنية الصرفِيَّة.
(٣) ومما هو جدير بالملاحظة أن هذا المصطلح قد استخدمه النُّحَاة من بعد سيبويه، ونجد مثلا الزمخشري يستخدمه في تخريجاته النَّحْوِيَّة في تفسيره الكشاف، فقال مثلا في قوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} البقرة: ٤: ((وفي تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض بأهل الكتاب)). الكشاف: ١/ ٤٣

<<  <   >  >>