عبد الله بن مسعود:"لأن أقضي يوماً بحق أفضل من عبادة سبعين سنة". ومراده أن قضاء يوم بالحق أفضل من عبادة سبعين سنة، فلذلك كان العدل بين الناس أفضل أعمال البر، وأعلى درجات الأجر. قال الله:{وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ}(١). فأي شرف أشرف من محبة الله.
واعلم أن كل ما جاء من الأحاديث التي فيها تخويف ووعيد؛ فإنما هي في حق قضاة الجور من العلماء، والجهال الذين يدخلون أنفسهم في هذا المنصب بغير علم؛ ففي هذين الصنفين جاء الوعيد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين". فقد أورده أكثر الناس في معرض الذم، والتحذير من القضاء، وقد قال بعض العلماء هذا الحديث دليل على فضله، وعلى شرف القضاء وعظم منزلته، وأن المتولي له مجاهد لنفسه وهواه، وهو دليل على فضل من قضى بالحق، إذ جعله ذبيح الحق امتحاناً لعظم منزلته، لتعظم له المثوبة امتناناً، فكما أن القاضي لما استسلم لحكم الله، وصبر على مخالفة الأقارب والأباعد في خصوماتهم، فلم تأخذه في الله لومة لائم، حتى قادهم إلى مر الحق وكلمة العدل، وكفهم عن دواعي الهوى. والمعنى: جعل ذبيح الحق لله، وبلغ به حال الشهداء الذين لهم الجنة، وقد ولى عليه السلام، علي بن أبي طالب، ومعاذاً، ومعقل بن يسار القضاء؛ فنعم الذابح ونعم المذبوحون، فالتحذير الوارد من الشارع؛ إنما هو عن الظلم، لا عن القضاء، فإن الجور في الأحكام واتباع الهوى من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، فيجب على من دخل في خطة القضاء بذل الجهد بالقيام بالحق والعدل؛ فقد قال بعض الأئمة: القضاء محنة، ومن دخل فيه؛ فقد ابتلي بعظيم.