[{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أَمْرِ الدُّنيا واتِّباعِ الشَّهواتِ {وَمَا خَلْفَهُمْ} مِن أمْرِ الآخِرَةِ بقَولِهم: لا بَعْثَ ولا حِسابَ] هؤلاءِ القُرناءُ حَسَّنوا لهم ما بين أيديهم مِنْ أمْرِ الدُّنيا، وقالوا لهم: اتَّبِعوا الشَّهواتِ، كَيِّفوا كما شِئْتُمْ، أتْرِفوا كما شئتم، كما قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}[الواقعة: ٤٥] ومَنُّوهم وما خَلْفَهم، أي: ما أمامهم؛ لأنَّ الخَلْفَ والوَراءَ قد يُرادُ به الأَمامُ كما في قولِه تعالى:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}[الكهف: ٧٩] يعني: أَمامَهم.
إذن: زَيَّنوا لهم الآخِرَةَ أيضًا بأنْ مَنُّوهم بأَحَدِ أَمْرينِ: إمَّا بالنَّجاةِ منَ العَذابِ في قولهِم: لا بَعْثَ ولا حِسابَ، وإمَّا أن يَنْتَقِلوا إلى خَيرٍ من ذَلِكَ، ويقولوا: إِنَّ الَّذي أَتْرَفَنا في الدنيا سوف يُتْرِفُنا في الآخِرَةِ، كقول بعضهم:{هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}[فُصِّلَت: ٥٠]، وكقولِ صاحِبِ الجَنَّتينِ:{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}[الكهف: ٣٦]، فهكذا يُمَنِّي الشَّيطانُ أولياءَه يَقولُ: انبَسِطوا بالدُّنيا أَتْرِفوا أنفُسَكم، وفي الآخِرَةِ سوف تَنْتَقِلونَ إلى ما هو أَفْضَلُ، زَيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خَلْفَهم ومَنَّوا لهمُ الأمانِيَّ.
ونَقولُ -كما أَسْلَفنا في القاعِدَةِ في التَّفسيرِ- أنَّ الآيَةَ إذا كانت تَحتَمِلُ مَعنيينِ لا مُرَجِّحَ لأَحَدِهِما على الآخَرِ، ولا مُنافاةَ بينهما، فإنَّها تُحمَلُ على المَعنَيينِ جميعًا،