الحمد لله الواحد المعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين. وبعد فإني لما فرغت من تأليف كتابي المسمى بالمخلاة، الذي حوى من كل شيء أحسنه وأحلاه، وهو كتاب كتب في عنفوان الشباب، قد لفقته ونسقته وأنفقت فيه ما رزقته، وضمنته ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين: من جواهر التفسير وزواهر التأويل، وعيون الأخبار ومحاسن الآثار، وبدائع حكم يستضاء بنورها، وجوامع كلم يهتدي ببدورها، ونفحات قدسية تعطر مشام الأرواح وواردات أنسية تحيي رميم الأشباح، وأبيات رائقة تشرب في الكؤوس لسلاستها، وحكايات شايقة تمزج بالنفوس لنفساتها، ونفايس عرايس تشاكل الدر المنثور، وعقائل مسائل تستحق أن تكتب بالنور على وجنات الحور، ومباحثات سديدة سنحت للخاطر الفاتر حال فراغ البال، ومناقشات عديدة سمح بها الطبع القاصر أيام الإشتغال، مع ترتيب أنيق لم أسبق إليه، وتهذيب رشيق لم أزاحم عليه، ثم عثرت بعد ذلك على نوادر تتحرك لها الطباع، وتهش لها الأسماع، وطرائف تسر المحزون، وتزري بالدر المخزون، ولطائف أصفى من رايق الشراب، وأبهى من أيام الشباب، وأشعار أعذب من الماء الزلال، وألطف من السحر الحلال، ومواعظ لو قرئت على الحجارة لانفجرت، أو الكواكب لانتثرت، وفقر أحسن من ورد الخدود، وأرق من شكوى العاشق حال الصدود، فاستخرت الله تعالى، ولفقت كتاباً ثانياً يحذو حذو ذلك الكتاب الفاخر، ويستبين به صدق المثل السائر: كم ترك الأول للآخر.
ولما لم يتسع المجال لترتيبه، ولا وجدت من الأيام فرصة لتبويبه، جعلته كسفط مختلط رخيصه بغاليه، أو عقد انفصم سلكه فتناثرت لئاليه، وسميته: بالكشكول ليطابق اسمه اسم أخيه ولم أذكر شيئاً مما ذكرته فيه، وتركت بعض صفحاته على بياضها لأقيد ما يسنح من الشوارد في رياضها كيلا يكون به عن سعة ذلك نكول، فإن السائل في معرض الحرمان إذا امتلأ الكشكول فسرح نظرك في رياضه، وأسق قريحتك من حياضه، وارتع بطبعك في حدائقه