من نهج البلاغة: ملائكة أسكنتهم سماواتك ورفعتهم عن أرضك هم أعلم خلقك بك وأخوفهم لك وأقربهم منك لم يسكنوا الأصلاب ولم يضمنوا الأرحام، ولم يخلقوا من ماء مهين، ولم يتشعبهم ريب المنون، وإنهم على مكانهم منك منزلتهم عندك، واستجماع أهوائهم فيك وكثرة طاعتهم لك وقلة غفلتهم عن أمرك لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقروا أعمالهم ولأزروا على أنفسهم، ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك ولم يطيعوك حق طاعتك سبحانك خالقاً ومعبوداً خلقت داراً وجعلت فيها مأدبة مطعماً ومشرباً وأزواجاً وخدماً قصوراً وأنهاراً وزروعاً ثماراً. ثم أرسلت داعياً يدعو إليها فلا الداعي أجابوا ولا فيما رغبت رغبوا ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا، وأقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على خبها ومن عشق شيئاً أغشى بصره، وأمرض قلبه فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع بأذن غير سميعة قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه فهو عبد لها ولمن في يديه شيء منها حيثما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها، لا ينزجر من الله بزاجر، ولا يتعظ منه بواعظ وهو يرى المأخوذين على الغرة، حيث لا إقالة لهم ولا رجعة كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون. فغير موصوف ما نزل بهم اجتمعت عليهم سكرة الموت، وحسرة الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيرت لها ألوانهم ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً وبين أحدهم وبين منطقة، وإنه لبين أهله ينظر إليهم ببصره ويسمع بأذنه على صحة من عقله، وبقاء من لبه. يفكر فيما أفنى عمره وفيما أذهب دهره، ويتذكر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها، وأشرف على فراقها تبقى لمن وراء ينعمون فيها، ويمتعون بها، فيكون المهنا لغيره والعبء على ظهره والمرء قد غلقت رهونه بها وهو يعض يديه ندامة على ما انكشف له عند الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره، ويتمنى أن الذي كان يغبط بها ويحسده عليها قد حازها دونه لم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط سمعه، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ولا يسمع بسمعه يردد طرفه بالنظر في وجوههم يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم. ثم ازداد الموت التياطاً به، فقبض بصره كما قبض سمعه وخرجت الروح من جسده وصار جيفة بين أهله قد أوحشوا من جانبه وتباعدوا من قربه لا يسعد باكياً، ولا يجيب داعياً ثم حملوه إلى محط في الأرض فأسلموه فيه إلى عمله وانقطعوا عن زؤرته حتى إذا بلغ الكتاب أجله، والأمر مقاديره والحق آخر الخلق بأوله، وجاء من أمر الله ما يريده